ذكريات أمومة

لقطات من طفولتي الحافلة، وسانحة أمومة من سجل أمي الفاضلة.. ذكريات تخطر في مخيلتي كفيلم قصير.. كانت أمي رائعة الجمال تمر في خيالي أحلى من الخيال، ترعانا مثل لبؤة ترعى الأشبال، كانت مثل القمر مرتفعا بضيائه يشكّل حوله هالة تزيده رفعة، كانت أمي قمراً ونحن حولها الهالة، أنا وإخوتي والوحيدة لالة.

رأيتُ في شريط الفيلم ولادة أختي “لالة” وتذكرتُ تلك اللحظات حين فرحت أمّي بتعبها وارتاحت لنصبها، واحتفلت والزهو يملأ الأرجاء حولها وهي على فراش الولادة..

ورأيت في شريط الفيلم، في بيتنا الضيّق، كنّا نعيش رحابة قلب يكافح لأجل أُفُقنا ليتّسع ويحيل عتمة ذلك البيت نوراً في أيامنا يُشع، لم نشعر بضيق العيش مع أننا كنّا نعيشُه، كانت أمي تقسم رغيف الخبز نصفين، وتعقد مسابقة بين اثنين، من يستطيع أن يدّخر قسمته أكبر وقت ممكن إلى وقت الغذاء أو العشاء ومن يتفوق على أخيه في ذلك؟.. كنّا نخبّئه في الخزانة، وراء التلفاز، في غرفة نومنا، أو نعطيه لأمّنا تخبّئُه لنا حين نعجز عن ذلك ونحن نتسابق ونضحك بكل براءة ونشوة فرحٍ.. ولمـَّا كبرنا فهمنا أنّ البلدة في تلك الأيام كانت تعيش أزمة خبز خانقة..

ورأيتُ في شريط الفيلم، أمّي قد خصّصت “أنّج ن ومّاس”(1) روضة لنا صنعنا ألوانها الزاهية في خيالنا بضحكاتنا وصراخنا البريء، وكانت ألعابُنا قطعا خشبية متعدّدة الأحجام، مختلفة الأشكال نحضرها من عند “عمي صالح” النجار رحمه الله. وكانت ألعابُنا قطع “اللوقو” صفراء وبيضاء، وكيسا من نوى التمر(2) وبعض اللعب الحقيقية!

بهذه الألعاب كنّا مهندسين، رؤساء مشاريع كنّا تجاراً وسائقين وأرباب أُسر.. كانت روضتنا هذه عند أمّي أحلى ما خصّصته لنا لتحميناَ من لعب الشوارع وما فيه من مخاطر ومشاكل ورفقة سيئة، والمنزل في اعتبارها أكبر ضامن لها لأولادها وحافظٍ لهم من تلك المساوئ، وكانت تحرص كل الحرص على عودتنا للمنزل مباشرة من المدرسة أو الحانوت… حتى كانت بهذا تسمع كلاما يؤذيها من نسوةٍ أنّ أولادك سيكبرون في عقد ونقص بسبب عزلهم عن أصدقائهم ومنعهم من الشارع!! لكن أمّي كانت مدركة ومؤمنة أن ما تقوم به هو الصواب في فلسفة تربيتها لنا، وحاولت مراراً تجاهل حديثهن وتجاوزه.. وبالفعل كانت فلسفتها صحيحة.

كانت أمّي وحيدة بالمنزل لا أنيس لها سواناَ، فأبي العزيز كان يكدح من أجل والدتي ومن أجلنا في سنوات عجاف قاسية، فلا يبقى في نهار أمّي سوانا نحن الصغار وهي لم تكن تشغّل مذياعاً أو تلفازاً فيكفيها صوتُ أبنائها أنيساً.

ورأيتُ في شريط الفيلم “يوم الجمعة” يوم نهاية الأسبوع وذهابنا إلى الغابة.. نستيقظ باكراً ونحضّر مع أمّنا قفة الطعام والأواني وما يلزم لذلك اليوم، ثمّ ننطلق رفقتها عبر الأزقة الداخلية للبلدة، حشمة منها وتعفّفا من مخالطة الرجال في الأسواق وواجهات المحلات.. وفي الغابة نعيش يوما حافلاً بالعمل مع أبينا العزيز ثمّ باللّعب جزاء ذاك العمل، وبالسباحة في فصل الصيف وجني التمور والبرتقال في الخريف وجمع زهر الليمون في الربيع، وكنّا نساعد أبانا حين يشمّر على ساعده إمّا يسقي النخل والزرع أو يزيّن المحيط ليغدو في أبهى منظر، أو يجمع الحطب ويخزنه لأيام الدهر، أو يضيف بناء لَبِنات أخرى ليعلو بيتنا الجديد الموعود.. وهو في كل هذا بشوش المحيا، مشرق الثغر مبتسما، يضاحكنا ويبادلنا النكتة ويلاعبنا..

وكانت أمّي إلى جانبه تشاركه الحكاية الجميلة ليومنا الجميل، تبدأه مستبشرة متفائلة بإطعام الخراف والدجاج، ثم بأعمال أخرى، تحمّص القهوة العربية أو تحضّر الغذاء أو تغسل ملابسنا تحت دفء شمس ذهبية وكانت بكل هذا تمنحنا الراحة التي ننشدها.. حتى نعود للبيت في آخر اليوم.. كان أخي الصغير يعاني ضعفاً في ساقيه فلا يستطيع المشي لمسافة طويلة من شدّة التعب، فتحمله أمّي الحنون الرؤوم بين ذراعيها لمئات الأمتار مع أنّه كان كبير الجسم ثقيل الوزن في الثامنة من عمره تقريبا. فمن مثل الأمّ بهذه العظمة والتضحية، تتجاهل تعبها وتهجر راحتها!

ورأيتُ في شريط الفيلم، بعض مشاكساتنا في ذلك البيت الضيّق(3) حين كانت أمّي تغزل غزلها وتنسج نسجها ونحن الصغار نحومُ حول المنسج، ندخل فيه ونخرج، ونهرب لها ببعض أغراضه أو نجذب بأصابعنا خيوطه حتى تكاد تنقطع.. كان في كلّ هذا مضايقة لأمّي الحنون التي اتخذت من المنسج عملا شريفا تُعين به أبي على تكاليف المعيشة، لكن لا أذكر يوماً عبّرت فيه عن تضايقها، بل أذكر ملامح صبرها على شقاوتنا بابتسامتها الجميلة..

وحين تقف أمّي في مطبخ بيتنا،تحرصُ على غذائنا ليكون طيّب المذاق، حلو المأكل.. كان فوق المطبخ شبّاك “إكومار”(4)  يُدخل ضوء النهار ويصرف عن المطبخ روائحه، وكان من أحلى مشاكساتنا إطلالتُنا على قدر الطّبخ حين تفتحه أمّي، لنرى الطعام يغلي فوق النار ونشمّ رائحته، كأنّنا نحدّثُ أنفسنا أن اصبري سيأتي الغذاء! أمّي لم تكن تستسيغ التصرف وتنهانا عنه قائلة: “لا تُطلّوا على الطعام فربما سقط فيه وسخ فيفسده وتمرضون إذا أكلتم”.. وكانت أمّي كثيرا ما تدعونا لمساعدتها في بعض شؤون البيت كتنظيم ملابسنا أو تنظيف غرفتنا وهدفها أن تملأ وقت فراغنا وتعلّمنا الاعتماد على النفس وتحرص على مراجعة دروسنا، أمّا التلفاز فكان وقته محددّا لتعلمنا تحديد الأولويات وتنظيم الوقت.

ورأيتُ في شريط الفيلم لقطة لا تغادرُ ذاكرتي.. من سنوات انعدم فيها الأمن وساد في أيامها الهمّ وانتشر الحزن، وكنّا صغاراً لا ندرك بعقولنا الصغيرة شيئاً من “سنوات الجمر” إلاّ ما نسمع من أخبار لا نفهم عمق المأساة فيها.. لم تكن الصحراء الجزائرية عموما ومنها غرداية تعاني من الخوف والإرهاب ما عانى منه الشمال، إلاّ في أحداث قليلة أو ما يلحق أبناءها في مدن الشمال وفي الطرقات ولكنها كانت تعيش معه نفس الخوف والقلق.. كان أبي العزيز يسافر كلّ أسبوع إلى الـ”دزاير”(5) لمهامه المهنية.. يغيبُ عن المنزل ليومين ويترك فيهما أمّي المسكينة مهمومة حزينة، لا تعلم هل سيعود ساعدُها وسندُها، أم سيكون –لاقدّر الله- آخر ذهابٍ له.. يخيّم السكون الحزين على وجه أمّي، تخشى الأسوأ وتترقّب هاتفاً يرنُّ يطمئنها بالسلامة، وكنّا نحن الصغار نكسر ذلك الحزن بضحكاتنا ونفجّر السكون بضجيجنا، وأمّي تعيش حالةً بين أنسها بنا وهمّها بأبينا..

أذكر يوماً كانت تتفقّد فيه عشاءنا وصورة الرجل الزوج لا تغادر ذهنها خوفاً وهمّاً وفي ذهننا صورة الرجل الأب الذي سيعود من الـ”دزاير” وسيحضر لنا شيكولاطة “سندو” و”مندولين”(6) وكانت عندنا مفخرة أن يذهب أبي إلى العاصمة ويعود بالهدايا!.. وبسبب الضغط الذي بداخلها طلبت منّا أمّي أن نسكت ونقلّل من ضجيجنا، لكنّنا لم نمتثل لها طاعةً، فانفجرت بالبكاء وجعلتنا دموعها الغزيرة وزفراتها الحزينة نسكتُ فجأة في حيرة وذهول! كأنّ أمّي تصارع بين راحتها ببراءتنا وبين واقع مؤلم يعيشه الكبار المدركون!! وبالأمس واليوم وغدا وفي كلّ يوم أقف إجلالا واحتراما لتلك الدموع وذلك الوجه الحزين كلّما تذكّرته، وتدمع عيني له ندما على عصياننا لها، لعلّ دمعة من عيني تمتزج بدموعها فتغفر لها ولي…

…كانت هذه بعض لقطات الفيلم القصير في ذاكرتي يلخّص بعض محطات حياتنا ويسجّل ذكرياتنا الحلوة والمرّة مع أمّي الغالية،حتّى إذا اشتدّ ساعدي وتفتّح عقلي تستوقفني لقطة أخرى لأمومة راقية، عالية المكارم. يوم قالت لي: “يا ولدي لقد صرتَ مؤهّلا لتجدَ لنفسك إمرأة تكون لك زوجة ورفيقة دربك تعيش معها حياتك القادمة”!! لكن من غيرك يا أمّي فضلاً عليّ؟ فليكن لي شرف اختيارها ولك شرف استشارتي لك فيها ورضاك بها، حتى أرى فرحتك تكتمل وراحتك تملأ عينيك بزوجتي لعلّي أردُّ قطرة من فيض فضلك عليّ.

واليوم وبعد سنوات حافلة صارت أمّي جدّة وزوجتي أمّا وأنا أباً. وصدق الذي قال:” وراء كل رجل عظيم امرأة” فأبي الرجل العظيم بتضحياته وحسن تربيته لنا، كانت له أمّي نعم الزوجة الوفيّة المجاهدة الصبورة، وأنا وإخوتي لم نكن لنصير رجالاً ننشئ عائلاتنا وينظر إلينا المجتمع بعين الرّضا إلاّ لأننا نشأنا في حضن امرأة هي الأمّ المربيّة المعلمة العاملة الحريصة على أبنائها، وبصماتها ظاهرة في كلّ أيام حياتنا.

 ==================

الهوامش:

(1) في لهجتنا “المزابية” الأمازيغية ينفرد كلّ طابق في المنزل في النظام العمراني الخاص بمنطقتنا بتسمية، و”انّج نومّاس” يعني الطابق الأوسط. غالبا ما يكون الثالث، لكن ليس كل المنازل لديها نفس عدد الطوابق فهي من طابقين إلى 5 طوابق والأسامي بالترتيب من أسفل لأعلى: تامدمورت (الدهليز)، أمّاس ن تدارت (وسط الدار) ، إكومار، أنّج ن ومّاس (الطابق الأوسط)، أنّج امقران (الطابق الكبير وهو السطح) والله أعلم. وأدعو أهل الإختصاص لتصويبي إن كنت مخطئا في الوصف.

(2) نوى التمر كانت تجمعه الجدّات والأمهات لحساب عدد التسبيحات والذكر فيما يسمّى عندنا (أعيار) ويستغلّه الأطفال للّعب يشكلون به البيوت وطريق السيارات وغيرها… آه على الزمن الجميل.

(3) كان بيتنا الأوّل وسط القصر ضيّقا فعلاً، ولكننا لم نشعر به إلاّ حين كبرنا وانتقلنا لبيتنا الجديد. وإلى اليوم كلّما زرنا بيتنا القديم نتعجّب:” هل كان هذا الضّيق يتّسع لنا جميعا بحضن ودفء وأمان؟”

(4) نفس الهامش رقم 1

(5) الـ”دزاير”: الجزائر العاصمة

(6) مسميات لشيكولاطة صغيرة سنوات التسعينات وكانت هي النوعية الرفيعة آنذاك. كان أبي يحضرها من العاصمة لعدم توفرها في مدينتنا.

مصطفى سعيد

Exit mobile version