من وحي القلمواحة المعرفة

هل لأهل غزّة عيد؟؟!!

قمت في الصّباح، فوجدت ولدي ينتظرني، وقد نهض من نومه مبكّرًا على غير عادته في أيّام رمضان..

السّلام عليك يا ولدي! ما الذي جعلك تنهض مبكّرًا اليوم؟!

وعليكم السّلام يا أبي, حيّرني سؤال، أريد منك إجابة ضافية، تزيل عنّي هذه الحيرة.

ما هذا الأمر الذي شغل بالك، فأردت الاستفسار عنه؟

بعد أيّام سيحلّ عيد الفطر المبارك إن شاء الله.

نرجو أن يبلّغنا الله تعالى هذا اليوم فنحتفل به مع بقيّة المسلمين في العالم..

ولكن..ولكن.!

ولكن، ماذا؟؟

هل يحتفل إخواننا الفلسطينيّون معنا بالعيد؟!

نعم! بعد أداء فريضة الصيّام يفرحون بالجائزة، جائزة عبادة الله بالقيام بهذا الرّكن.

هل يمكن أن يفرحوا وسط ما يلحقهم من أذى وأضرار وأخطار من عصابات الإجرام والإفساد في الأرض، الصّهاينة المعتدين، الوحوش الهائجة؟؟ وكيف يحتفلون؟ وكيف يمرحون؟

هذا أمرٌ محيّر ومؤسف ومؤلم –حقًّا – أن يحرم الفلسطينيّون من فرحةٍ، هي من حقّهم؟ كيف يحتفلون؟ وكيف يفرحون؟ ومع من يفرحون؟ وبماذا يفرحون؟

أبتاه! القصف لم يتوقّف عنهم، بيوتهم مخرّبة، أطفالهم يُتِّموا، آباؤهم فقدوا أولادهم، نساؤهم رُمِّلنَ، قتلاهم كثروا، جرحاهم زادت أعدادهم، هم محرومون من الغذاء والماء، ومن أبسط وسائل الحياة.. العالم يتفرّج على مآسيهم، ولا يواسيهم إلاّ قليل من النّاس، ويالقليل من المسعفات.

ولدي! عمّقت جرح قلبي بما ذكرت، أنهكت جسمي بما نطقت، حيّرت عقلي بما وصفت…

لم تجبني والدي! هل لأهل غزّة عيد؟ هل لأهل فلسطين فرحة مع بقيّة المسلمين؟؟

ولا يمكن أن يصدر إلاّ من ناس فقدوا الرّحمة من قلوبهم، وخرجوا من هيئتهم الإنسانيّة إلى صور حيوانات مفترسة ضارية. فاللهَ اللهَ لإخواننا المقهورين المفجوعين. واللهَ اللهَ على تخاذل الجيران والأقارب

أقول لك: إنّ ما يحدث لإخواننا الفلسطينيّين لا يطاق، وما يتعرّضون له لا يتصوّره عقل، ولا يقبله شرع، والنّاس أجمعين.

هلاَّ أجبتني على سؤالي: هل لأهل فلسطين عيد؟!

ولدي! إنّ الفرحة لا تكون فقط في لبس الجديد من اللّباس، وأكل الشّهيّ من الطّعام، وشرب ما لذّ من الشّراب، والتّفسّح، وإقامة الحفلات..

فكيف تكون الفرحة والسّرور إذن؟!

تكون أيضًا في التّعبير عن أداء واجب ديني، أو وطني، أو اجتماعي، أو إنساني…

لم أفهم ماذا تعني؟ وما علاقة هذا بسؤالي؟

حتّى ولو حُرم الفلسطينيّون من مظاهر الفرح في عيد الفطر وبقيّة الأعياد، فهم سيحتفلون به بطريقتهم الخاصّة، سيعلنون للعالم كلّه أنّنا فرحون بما قدّمنا، راضون بما حدث لنا، متيقّنون بنصر الله لنا…

أبتاه! هل ترى الفرح في هذا الذي قلتَه؟ أريد مزيدًا من التّوضيح، اسمح لي، لم استوعب الدّرس..

فرحة المسلم هي في القيام بواجبه، من طاعة الله عزّ وجلّ، والجهاد في سبيله، والدّفاع عن الحقوق المغصوبة، والقيام على خدمة الإنسانيّة..

هل تعني أنّ الفلسطينيّين لا يفكّرون في الاحتفال بلبس الثّياب وتناول الشّراب، وأكل ما لذّ وطاب، والجلوس إلى الأصحاب… وغير ذلك من مظاهر الفرح..

هم يفكّرون في التّعبير عن النّصر الذي حقّقوه أمام العدوّ الصّهيوني، وما ألحقوا به من هزائم وخسائر كبيرة، جعلته مَسْخَرَةً أمام العالم.. فرحتُهم في إفهام العالم الإسلامي بأنّ دولة الظّلم لا تدوم، وأنّ دولة شعب الله المختار المزعوم، ستزول بمثل ما نقدّم ونقوم، فرحتهم في إقناع الشّعوب العربيّة الضّعيفة المنهزمة أنّ دولة إسرائل ليست في شيء من القوّة والشّدّة.. هي ضعيفة بقوّة اتّحادها، شديدة بقوّة إيمانها، عظيمة بتمسّكها بقيمها.. لكنّها قويّة بضعفها، منتصرة بانهزامها وتخاذلها..

والله إنّها لفرحة عظيمة، أن تتغيّر نظرة العرب والمسلمين إلى حقيقىة الكيان الصّهيوني. هذا هو الاحتفال الحقيقي، وهذه هي الفرحة الحقيقيّة، ما عداهما يزول بانتهاء المناسبة.

فرحة الفلسطينيّين في استرجاع الكرامة، احتفالهم في فكّ الحريّة، سرورهم في قهر العدوّ…

هذه هي المعاني الحقيقيّة للعيد وللفرح والسّرور..

بنيّ! لنا في تاريخ الفرح عند المسلمين نماذج، تبعث فينا الثّقة والقوّة، بعد النّصر المؤزّر على الأعداء، وبعد الصّبر على البلاء..

هلاّ ذكّرتني ببعضها!

هذا من واجبي راعيًّا لك، وهو حقّك مَرْعيًّا، عليّ أن أعلِّمَك…

ما هي هذه النّماذج؟

هي كثيرة، هي أحداث حدثت في رمضان – كما يحدث للفلسطينيّين هذه الأيّام في رمضان. لنا إسوة في بدر الصّحابة، وحطّين صلاح الدّين، وبمعركة عين جالوت، وبمعركة العبور في العاشر من رمضان..

كلّ ما ذكرت والدي الكريم! أحداث كبيرة، أعقبتها انتصارات كبيرة، رفعت من قدر الإسلام والمسلمين، وبعثت في قلوب الأعداء الرّعب والفزع والهلع والوهن.

ألا ترى ولدي العزيز! كيف يعيش الصّهاينة اليوم حالات من الرّعب والخوف والفزع. بفعل الضّربات الموجعة التي سدّدها نحوهم رجال القسّام ومن معهم، ألا يحقّ للفلسطينيّين أن يفرحوا بطريقتهم الخاصّةّ؟

صحيح إنّ هذه الفرحة أهمّ من مظاهر فرحنا نحن، الذين ننعم بالأمن والأمان، ونتمتّع بالأكل الجيّد، وبكلّ مًتَع الحياة.

لكن لابدّ من التّنبيه إلى أمر مهمّ، هو: يجب احترام مشاعر إخواننا في غزّة وفلسطين، ونحن نحتفل بالعيد، أن لا نبالغ في هذا الفرح.

ماذا تعني ؟ وكيف يتمّ هذا؟

نقلّل من مظاهر الفرح، فلا نبالغ فيه، أن نأكل فلا نسرف في الأكل، أن نلبس الجديد، فلا نتفنّن فيه. أن نمرح فلا نستمرّ فيه كثيرًا.

أيضًا أن نتذكّر ونحن نأكل أنّ إخواننا في فلسطين جائعون، أن لا ننسى ونحن نلبس الثّياب الجديدة أنّهم عراة لا يجدون حتّى اللّباس القديم. نحن نعيش في أمن وسلام، وإخواننا محرومون منهما. نحن ننام في بيوت مهيّأة وآمنة ، وهم يبيتون في العراء، بل يتعرّضون للغارات في كلّ لحظة، وليس لهم مكان آمن..

فعلاً يا أبي! هي مأساة ومعاناة وعسر وسوء معبشة.. ففي أضعف الإيمان أن نشارك إخواننا البائسين بهذا السّلوك البسيط، فنتعاطف معهم بقلوبنا. فلا يحسن بنا أن ننساهم في العيد، فنسرف في الفرح ومظاهره. فليس من خلق المؤمن نسيان أخيه المؤمن في مثل هذه الظّروف.

نسأل لإخواننا في فلسطين النّصر على الأعداء، وأن يرزقنا خلق الوفاء، لمن قدّم للدّفاع عن الأراضي المقدّسة آيات الفداء. نعم لأهل غزّة عيد، لكن بشكل خاصّ، وبطعم خاصّ. رحم الله شهداءهم، وشفى جرحاهم، وبدّل عسرهم يسرًا، وسلّط بأسه ومكره على الصّهاينة المعتدين، وصبّ عليهم العذاب الشّديد.

الجزائر يوم الجمعة: 27 من رمضان 1435هـ

25 من جويليّة 2014م

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى