تأملات وأفكارواحة المعرفة

الفتوّة والشّباب وقود الحضارة

الشّباب والفتوّة هي القلب النّابض لمسيرة عمر الإنسان، والوجه المشرق لبنية المجتمع، إن تسلّحت بمقوّمات الرّشد تمكّنت من بلوغ قمم الوعي. وظفرت بزمام التّغيير والتّحكم في آلياته ووجهته. ولأهمية هذه الفئة في مسيرة الإنسانية، وقفت على أعتاب القرآن أستكشف شيئا من ملامحها، وأتعرّف على جانب من صورتها بمنظور الوحي، سعيا إلى ترشيد الفكر، وتجديد الوعي بقضايا الإنسان، وقد اكتفيت بموضوع “الفتوّة” من خلال القرآن دون التّعرض إلى مرادفاتها من الكلمات والمعاني التي تحوم في فلك الشّباب والحداثة.

وكخطوة منهجيّة لضبط وتحديد معالم الكلمة، وقفت على أبرز معانيها عند أهل اللغة؛ وقد وردت مادّة (ف ت و) في المعاجم بمعنى الشّباب وحداثة السّن. وهذا المعنى نستأنس به في مسيرتنا التّأملية للآيات القرآنية التي احتوت على لفظة الفتوّة؛ وبشيء من التّأمل في السياق الواردة فيه وفيما تستبطنه من دلائل، يستشعر القارئ المتدبّر وجود شحنة إيمانيّة عالية تشعّ منها، وطاقة مكنونة في ثناياها تنبض بنوع من القوّة والفاعليّة والجرأة. هذا في معناها بشكل عام. وإذا جئنا لضبط المدلول بشيء من الدّقة وفق طبيعة السّياق ومنحناه نجد أنّها تركّز على معنيين ولا تكاد تخرج عنهما: 

  • الأول منهما هو: بمعنى الشّباب والقوّة أو حداثة السّن وما يميّزها من دافعية.

نجد مثاله في صورة فتية الكهف الّذين جمعهم أمرُ الله، فشكّلوا من أجله رابطة صداقة وأخوّة قائمة على أساس الإيمان بالله وحده، والتّمرد على كل فكرة تمسّ هذا الأساس أو تخدش في ثوابته، ونشؤا في بيئة اجتماعية تدين بالوثنية والكفر، وتتخذه مثلا أعلى. ولا مجال فيها لممارسة الإيمان أو تبنّيه أو حتى التّفكير فيه، (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا ياتون عليهم بسلطان بيّن ) وطبعا… ثلّة من الشباب ليس لهم باع ولا تجربة في الحياة، ولا يتمتعون بخبرة ميدانية أو نفوذ وسلطة، يواجهون أمّة ضالّة متمسّكة بعقيدتها بشدّة، ستقضي وبكل سهولة على مشروع الإيمان الفتيّ في مهده، ولن يصعب عليها ذلك.

 ولأن الفتية المؤمنين يعرفون جيدا ما سيلحقهم من خطر جرّاء إيمانهم، ويدركون تماما مآل موقفهم، القائم على التّمرد والخروج على ثوابت المجتمع وأعرافه؛ اتخذوا لنفسهم إجراء عمليّا تمثّل في المغادرة الفوريّة لمكان الخطر، وذلك بالالتجاء والتوجّه نحو أقرب بيئة آمنة ومناسبة،  فكان الابتعاد عن الأنظار واللّجوء إلى الكهف المنعزل هو الاختيار الأمثل والقرار الأصوب (اِذ اَوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيّء لنا من امرنا رشدا) فصفا لهم الجوّ وخلا لهم المكان بعيدا عن أنظار المتربّصين، ولم يجدوا بُدّا من اللّجوء حينها إلى الإله الواحد بالعبادة والدّعاء من أجل استمداد العناية والتّوفيق السّماوي، فالأسباب لوحدها لا تحقّق المراد إن لم تدعّم بالسند الغيبي والحماية الإلهية. وكانت النتيجة كرم إلهي وفيوض إيمانية إضافية تقوّي العزائم وتثبّت النفوس البريئة المضطهدة التي تتوقع إشارة خطر في أيّ لحظة، فكان الزّاد الإلهي أنس ورفق لوحشة النّفوس في غيابات الكهف، وطوق عناية لها. (إنهم فتية امنوا بربّهم وزدناهم هدى).

ولأنّ الإنسان يتحرّك ويتّخذ قراراته حسب طبيعة الظّروف التي يعيشها، والتوقعات التي يبنيها، بين أن ينسحب تماما من المواجهة، ويكتفي بالاعتزال كحلّ سلمي، أو يفضّل المواجهة والإفصاح عن موقفه الإيماني حسب ما يمليه عليه ضميره وقناعته، وحسب ما يراه بمنطقه السليم مناسبا وملائما، تماما كموقف الخليل إبراهيم عليه السّلام مع قومه حين قرّر المواجهة المباشرة رغم غياب أي نصير أو سند يكون له عونا ورفيقا في مواجهته، لكن المنطق السّليم وبراعة الحجة وقوة الشّخصية كانت لإبراهيم نعم المعين والرّفيق في مواجهة الشّرك وأهله.(قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) 

ليشترك النموذجين نموذج فتية الكهف، ونموذج الخليل إبراهيم في كونهما شباب في عمر الزهور سلمت فطرتهم من التلوث بأدنى فكرة تنافي التوحيد، وتفرّدوا بنفوس مشبّعة بروح الإيمان بالله في بيئة تشبّعت بالوثنيّة إلى النّخاع. فعملوا على حفظ وتنمية فكرتهم والانتصار لإيمانهم كلٌّ بطريقته الخاصّة. 

  • الثاني: هو العبد والخادم.

وفي سياق آخر تعرض لنا الآيات مفهوم الفتوّة في منحنى اجتماعي محدّد، وذلك بغية تسليط الضّوء على فئة من البشر لم يخل منها زمان ولا مكان، فئة ارتبط اسمها بمعاني الذل والاحتقار، وبمفاهيم الدونية والاستعباد في أبشع صوره إنّهم الرقيق المملوكين. والعبد أو الرّق في المفهوم الشّائع، هو الإنسان المحروم من الأهليّة والّذي تكون جميع أفعاله الاختيارية بيد إنسان آخر، فهو يباع ويُشترى ويؤمر وينهى ويُتصرّف فيه بكامل الحرّية دون أيّ اعتبار لشخصه أو مشاعره، فلا فرق بينه وبين الأشياء والمتاع. 

وقد وردت كلمة الفتوّة بهذا المعنى في القرآن سبع مرّات. من ذلك قوله تعالى في سورة الكهف (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقبا) في مشهد حضاريّ يرافق الفتى (الخادم) نبيّا في رحلة علم وإيمان متميّزة، ليغدو العلم اللّدني هو المعيار الّذي ساقه القرآن ليقضي على الفروق الاجتماعيّة، ويوحّد ذوي العقول على مختلف مشاربهم في خطّ واحد، فبدل توظيفه لكلمة الرّق والعبد اختار القرآن لفظة “الفتى” لتبرز أحسن الأوصاف والمميزات التي يحملها ذلك الخادم والعبد، كبديل جديد غير معهود لمفهوم العبد.  

وفي فلك النبوّة دائما يصوّر لنا القرآن بأسلوب بديع الصّورة النّاصعة والحقيقيّة للعبد المملوك، ويخلع عنها رداء العبودية الموهوم والذي نسجته الأعراف والقوانين البشرية وألزمته على الانسانية ردحا من الزمن ولا يزال: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه …) ها هو ذا يوسف الصديق رغم مقامه النّبويّ اضطرته الظّروف وساقته إلى أن يعيش تجربة الرّق والعبودية ويخضع لها رغما عنه، ويسلّط عليه الظّلم تحت هذا الغطاء، ورغم الظّروف العصيبة التي مرّ بها يوسف. لم تخضع روحه -قطّ- للعبودية، ولم تستكن أو تنقاد لأيّ جهة غير الله وحده، فتجسّد بموقفه ذلك الصّورة الناصعة للإنسان الحرّ والمتّحرّر -رغم عبوديته- من أيّ سلطة أرضيّة يحكمها المكان أو يحدّها الزّمان، في حين خضعت نفسه وكيانه بكل تفاصيلها لربه في انقياد واستسلام مطلق لا مثيل له فكان بذلك أسمى معاني العبودية للخالق بمحض اختياره الحر، على عكس الواقع الخارجي الذي يعيشه، والذي فرضته عليه الأعراف البشرية الظالمة. 

وبمقابل لجوء الفتية ودخولهم الكهف فرارا بدينهم وإيمانهم، يدخل يوسف بدوره السّجن فرارا بدينه وإيمانه، فشاءت الأقدار أن يرافقه في سجنه فتيان (ودخل معه السّجن فتيان) وتوحّدهم تجربة العبوديّة والرّق، ويلفّهم الظّلم بردائه ويزيده ظلام السّجن بؤسا. ليعيش بذلك يوسف أقسى الظّروف التي قد تلحق إنسانا سويا، لكنّ النّفوس الحرّة لا يقهرها سلطان مزعوم، فحوّل النّبي يوسف ساحة السّجن إلى مركز دعوي، واستثمر تلك الصّحبة في سبيل الله والدعوة وغرس وحدانيته في النفوس.فكانت إرادة الله أن تتحقّق نجاته بيد أحدهما. فبعد مسيرة طويلة من وهم الاستعباد والظّلم تظهر حقيقة الإنسان ناصعة، إنّه ذلك العبد الخادم المملوك بإمكانه أن يكون سيّدا ومالكا، إنّه عزيز مصر…! فبعد أن كان خادما مُسيّرا صار عزيزا عليما، مصيرُ الأمة بأكملها ومسيرها تحت إمرته. ليغدو السّجن والكهف مراكز إشعاع احتضنت فكرة الوحدانية وخلّدت معاني الإيمان في تجربة تاريخية خالدة.

وفي سياق ردّ الاعتبار لإنسانية المملوك يطرح القرآن قضية الفتيات المملوكات، ويفتح لها بابا للخروج من أسر العبوديّة، حين يرغّب في الزّواج بالأمة مثل الحرة، في قوله: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهنّ أجورهن بالمعروف) ولم يكتف القرآن بذلك؛ بل أعطى لها كامل حقوقها – تمهيدا لعقد النّكاح- وذلك باستئذان أهلها ومنحها الصّداق. وفي نفس الموضوع يسعى القرآن إلى تقييد ظاهرة السّلطة المتحكّمة في العبيد، وذلك بمنحهن حرّية اتخاذ القرار النّابع من ذواتهن: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصّنا) وفي هاتين الآيتين نلمس موقف القرآن وسعيه الجادّ في دمج هذه الفئة في المجتمع عن طريق التّرغيب إلى الزواج بهن، ومنحهنّ أدنى الحقوق المسلوبة التي ترفعهن إلى مصافّ الإنسانية وهي حرّية اتخاذ القرار في الأمور الشّخصية، ومصادرة سلطة المالك وتضييق حدودها.

وقد عُبّر بلفظ الفتى عن العبد والخادم لأنه لا يكون خادما حتى يبلغ سنّ الشّباب حتى يستطيع خدمة مولاه، كما نجد في السنة نهي النبي أن يقول المرء عبدي وأمتي: وليقل فتاي وفتاتي فاستعمال الفتى في هذا المعنى هو من باب الكناية باللفظ الحسن بدلا من اللفظ غير المستحب ذكره. 

كما أنها لفتة قرآنية راقية جدا لظاهرة الرق والاستعباد، الغرض منها تغيير المفهوم الذّهني السّائد حول استعباد البشر واسترقاقهم، ولا يخفى علينا ما تحمله الكلمة من معنى تكريمي لهذا الصّنف من البشر، ينقلهم الى مصاف المساواة مع غيرهم، ولعلّ إنسان العصر يعيش تجربة الرق –مع شيء من الاختلاف- بمستوى لم تشهده الإنسانية من قبل. 

 فالفتوة في المنطق القرآني استعملت كوصف كنائي لفئة العبيد المملوك وحداثة السّن التي يتعامل معها بنوع من اللامبالاة، وكأنّ العمر هو المعيار لقياس نضج الإنسان من عدمه، لأجل ذلك طرح القرآن القضيّة بهدف ترشيد النّاس وإيقاظ وعيهم، ليعيدوا النّظر من جديد في طبيعة تصنيفهم للبشر بناء على فوارق وهمية مركبة في مخيلتهم، تستند في حكمها على الأعراف البشرية الوضعيّة الموروثة، دون أي اعتبار للنّضج العقلي أو الرّشد الإنساني الذي تثبته المواقف. 

والعجيب في الأمر أن نفس اللفظة وظّفها القرآن حين تحدّث عن أبناء الكبراء والأشراف وهم إبراهيم وفتية الكهف، من هنا ندرك أن الفتوة وظفت في فئتين اجتماعيتين تمثلان طرفي النّقيض في مخيّلة المجتمع، لكنّها في منطق القرآن شيئا آخر، فوحدة الإيمان وحداثة السّن والفاعلية هو الخيط الرفيع الذي ينتظمها جميعا.

بقلم: عائشة بنت اطفيش خرازي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى