يعود المرء إلى منزله بعد يومٍ مليء بالأحداث والتحديّات الاجتماعية، حيث كانت عواطفه متأرجحةً بين التوتر والانبساط مفعّلًا وضع النضال والكفاح، يعود إلى دفء منزله فيلغي جميع دفاعاته، وقد يختار أن يروّح عن نفسه برحلة في عالم الخيال، فيلتقط روايةً، وفيما يظنّ أنه بعيدٌ عن الواقع تنجح الرواية في اختراق شعوره والتأثير في بناء القيم لديه، فلا يخرج من تلك الرحلة الخيالية إلا وقد بذر الكاتب في عقله بذور أفكار جديدة.
قد تبدو هذه المقدمة مجرد إنشاء أدبيٍّ، إلا أن الأبحاث العلمية صارت تميل لتأكيد قدرة الخيال على التأثير في الواقع من خلال تغيير أفكار الأفراد وقيمهم (انظر مثلًاPrentice, D. A., & Gerrig, R. J. (1999). Exploring the boundary between fiction and reality)، بل قد تكون الرواية أشد تأثيرًا في الفرد من الوقائع الحقيقية، إذ إن الوقائع الفعلية التي تنقلها التقارير الصحفية والعلمية عادةً ما تكون جافةً، فيما أن الروايات تنبض بالحياة في نقلها أحداث الخيال، فتدفعك لتقمص الشخصيات والتفاعل معها بعواطفك، وهذا ما يقرّبك إلى أفكارها ويجعلها أكثر قبولًا عندك.
ومن هنا تبرز أهمية الرواية وأهمية الانتباه إلى ما تبثه من أفكار وقيم، خصوصًا عند الناشئة والشباب، إذ إن منظومتهم القيمية في طور التشكّل فقد يكون ما يقرؤونه في عالم الخيال أرسخ عندهم من مصادر القيم الأخرى، فهو مصدر لاشعوري كامنٌ عادةً ما لا ينتبه الفرد -صغيرًا كان أم كبيرًا- إليه، بل قد يؤثّر في تحليلاته للواقع واختياراته وترجيحاته دون أن يعيَ ذلك. كما أن الانطباع الأول عادةً ما يكون أكثر رسوخًا، فإذا تناولت الروايةُ مواضيع لا يتناولها الفرد في حياته اليومية ولا أثناء تعليمه بقدر كافٍ من التنبه فإنه باقٍ على نهج ما أثّر فيه بدايةً، ويتطلب إقناعه بعكسها مجهوداتٍ مضاعفةً.
اخترنا في هذا المقال التعليق على ثلاث روايات للمؤلفة (آمال بن عبد الله) وهي: (حكم أحيقار – لقمان وكارمن) (2018م)، (باية الماتريوشكا) (2019م)، (ظلال العتمة) (2021م)، وسنحاول نقد هذه الأعمال ومحاولة تحليلها أدبيًّا وفكريًّا. وما دفعنا لذلك هو اشتغال الكاتبة في نفس دائرتنا وهي المجتمع المزابي والمجتمع الجزائري، فقد ترعرعَت فيه واستعملَت في رواياتها أماكن هذه المجتمعات وشخوصها وقصدت انتقاد تقاليدها (مثل رواية باية الماتريوشكا التي جرت ببريان – غرداية في أزمنة مختلفة). والأمر الثاني هو اتخاذها لموقف وعظيٍّ تبشيريٍّ، وقد بدا ذلك واضحًا في رواية (حكم أحيقار) حيث كان (أحيقار) يوزّع الحِكم والمواعظ، وبدا ذلك أكثر سفورًا في رواية (ظلال العتمة) حيث تلبّست موقف المناضلين الحقوقيين بمرجعيّة مصادمة لمرجعيّة مجتمعها.
وأنا في هذا المقال بصدد محاولة الكشف عن هذه المرجعيّة الكامنة حينًا والظاهرة أحيانًا، كما سأخرج من تقاليد النقد معلِّقًا بقناعاتي في بعض المواضيع المطروحة ومستفيضًا في ذلك بقدر ما يسمح به المقال. وقبل ذلك كله سأعرّف بالكاتبة وأعمالها الثلاثة وأعلّق عليها أدبيًّا، لا كناقد أكاديمي راسخ في الصنعة بل كقارئ بسيط متنبّه.
إن العلاقة بين النقد والأدب، علاقة تكامليّة، فلا وجود للنقد إن لم يكن الأدب، ولا تطوّر للأدب دون نقد. وإننا إذ سلّطنا الأضواء على ما نراه من قصورٍ أدبي وفكريٍّ في هذه الروايات، فإننا لا نهدف إلى إدانة الكاتبة، بل مرادنا تنقية الأفكار وتقويتها في الأذهان، فبضرب الأفكار بعضها ببعض ننزّه العقل الجمعي عن الأوهام والأغلاط، ونُجلي الأصوب ونبيّنه ناصعًا. كما أننا نريد التنبيه إلى فنِّ الرواية بوصفه مرصدًا للتغيّرات الفكرية والانتقادات المجتمعية. فإن الأفكار الواردة في الرواية إذ تخمرت في ذهن الكاتب واجتهد ليخرجها ويسُوقها فإن ذلك يعني أن ثمةَ حركة فكرية تحاول تثبيت أساساتها في المجتمع، سواءً كانت حركةً ضئيلةً أو واسعة الانتشار، أصيلةً أو خارجيّة المنبع، وإن واجبنا الأول تجاه هذه الحركات رصدها والتنبه لوجودها، ثم الاستماع ومن ثمة اختيار نمط الاستجابة المجتمعية، كالنقاش أو إصلاح مواطن الخلل في التنشئة الاجتماعية أو في نظام المجتمع ذاته، وغير ذلك مما يناسب كل فكرة.
والكاتبة إذ نشرت رواياتها وصدحت برأيها، فإنها تدعونا بذلك لأن نسمعها وإننا بعد إذ سمعنا كلامها وزناه، فوجدناه خطابًا غير أصيل، وغير معبّر عن وجدان مجتمعنا وضميره، وإنما هي أفكار ملتقطة من مائدة الحداثة وفتاتها، وتعبّر في مجملها عن رؤية إنسانوية علمانية، وتصدر عن موقف نضاليٍّ موافق للحركات النسويَّة الغربية في نسخها الجديدة. وأجدّد التنبيه إلى أنّ إيجاد الصلة بين الأفكار الواردة -ضمنيًّا- في الرواية وأصولها من المزاج الحداثي الغالب لا يعني البتّة وصف عقيدة الكاتبة ورؤيتها للوجود، فنحن نصف ما ظهر من أفكار الرواية ونرجعها إلى أصولها في الخطاب السائد لا في عقل الكاتبة! ومع ذلك فإني لا أنزّه نفسي عن الخطأ في فهم المرامي أو المبالغة في التحسّس من الأفكار.
لمواصلة القراءة حمل النسخة الكاملة من هنا
المؤلف: مصطفى بن يحي بوشن