أحباب رحلوا عنا

دادي سليمان ن فضلي ينتقل إلى جوار ربه.. إنه ليس مجرَّد صِهرٍ

مادَّة “صهر” في اللغة العربية لها أكثر من دلالة، جميعُها تدور حول معنى “الذوبان” و”المخالطة الزوجية”؛ يُقال صهر الذهبَ أي أذابَه؛ وصاهر فلانٌ إلى القومِ أي تزوَّج منهم فصار صِهرا منهم وختنا؛ وفي كتاب الله تعالى نقرأ قوله سبحانه من سورة الفرقان: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا، فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾.

ولقد كان رسول الله ﷺ محسنا إلى الناس جميعاً، وأمر بالإحسان إلى المعاشِرين والخلطاء، ومن أقربهم وأوكدهم الأصهارُ أهلُ الزوجة الأصولُ منهم والفروع؛ فقال ﷺ: “إنكم ستفتحون أرض مصرَ، وهي أرضٌ يُسمَّى فيها القيراط؛ فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإنَّ لهم ذمَّة وصهراً”، وفي رواية: “ذمَّة ورحمًا”.

والمتوفَّى قبل أيامٍ، السيد “سليمان بن يوسف فضلي”، من آل افْضل؛ هو صِهري ولكنَّه ليس كأيّ صِهرٍ، وليس مجرَّد صهرٍ؛ فلقد تلاحمت العائلتان من “آل باباعمي” و”آل فضلي” وأنا يومها طفلٌ يحبو، وحدَثٌ يلهو؛ فلقد جمعت بين والدي العزيز “موسى باباعمي” ووالد زوجتي “سليمان فضلي” صداقة ممتدَّة، وشراكة مشتدَّة (أي مَتينة)؛ صهرت بينهما أسفارٌ ومناسباتٌ؛ ومشاريعُ وذكرياتٌ.

كما جمع بيننا الحيُّ، حيُّ “باحنينوح” في الجهة الغربية من البلدة الطيبة “بني يسجن”؛ فكنتُ وأترابي، وكانت زوجتي وصديقاتُها؛ نلعب في ذات الأزقَّة والشوارع؛ الذكور بالكرة والكريات (Jeu de billes)، والإناث بالحبالِ لعبةَ القفز والوثب، وكذا بعظمات تسمَّى “تشَعْبين” وغيرها…

ولقد شاء الله تعالى لي أن أسافر إلى فرنسا، قبل سن البلوغ؛ وأقيم فيها صَيفًا، وكان مُقامي في مرسيليا عند السيد الكريم، صديق الوالد، “عبد العزيز طلاي” حفظه الله؛ وفي باريس عند “دادي سليمان نفضلي”؛ ويومها اكتشفتُ معدن الرجلِ: مِن كرمٍ، وظرافةٍ، ونشاطٍ، وخدمةٍ للناس، وذكاءٍ، وحسن معشرٍ، وبشاشةٍ… وإن كنت أنسى فلا أنسى الأيام التي ينبري فيها للطبخ في البيتِ؛ بخاصَّة حين تكون الوجبةُ سمكا من كل نوعٍ وطعمٍ، أو ملوخية تونسيةً بزيت الزيتون والتوابل… إنه يومُ عرسٍ ووليمةٍ، يتمنَّاه الجميع، فيقام له طقوسٌ خاصَّة، ويُدعى إليها القريب والبعيد.

ثم إني لا أزال أذكر احتفاءه بالعلم والتعلُّم؛ ولا أدري من ألقى في روْعه أني من الأوائل في دراستي، فكان كلَّما زار ضيفٌ يقدمني إليه بألطفِ العبارات؛ ويجعل تفوُّقي زينةَ تقديمه؛ فأخجلُ من جهةٍ، وأتشجَّع وأستبشر خيرا من جهةٍ أخرى.
أمَّا النكتة والطرفة فهو عنوانُها وإمامُها، وهو المبدع فيها والملهَم؛ حتى إني أجزم أن لو انبرى أديبٌ لتدوين طُرفه ونُكاته لجمع كتابا يضاهي كتاب “ألوان بلا تلوين” لمحمد الأخضر السائحي، أو يتوفَّق عليه.

ولا يجمُل ذكر الصهر دون ذكر زوجه، حفيدة القطب الشيخ اطفيش رحمه الله، السيدة الفاضلة “عزَّة فافة اندواق”؛ وهي التي ساندته ووقفت إلى جنبه في السرَّاء والضرَّاء؛ وكانت له يدًا ورجلاً، أذنًا وعينًا؛ فوُلد على إثرهما ذريَّة طيبة، ستٌّ من البنات وابنٌ؛ نسأل الله تعالى أن يبارك في نسلهم وذرياتهم؛ ويجعلهم خير خلفٍ لخير سلفٍ.

ولكنَّ السبب الذي دفعني إلى تقريض “دادي سليمان نفضلي” اليومَ، وقد انتقل إلى جوار ربه، هو سندُه الذي تكرَّم به عليَّ في بدايات نشاطي الدعويّ؛ ذلك أنَّه وقف دارًا كبيرة، وأخرى بجوارها صغيرةً، لـِما عرف بـ”المطياف القرآني”؛ ولقد كتبتُ في بحثي حول “الوقف النسوي في الجزائر” ما يلي:

“المطياف القرآني في بني يزقن: المطياف القرآني مركز للبحث العلمي، بأحدث وسائل العصر؛ تأسس عام 1997م؛ في حي باحنينوح ببني يزقن؛ بإشراف ثلة من الأساتذة والفاعلين؛ وتعزز بتبرعات وهبات وجهود متكاثفة من العاملين والمنفقين؛ وأصل الوقف دارٌ وقفها السيد الابنُ سليمان فضلي من ثلث والده الحاج يوسف فضلي (ت. 1401ه/1981م)؛ وحين وفاة والدته السيدة لالة بنت بنوح معروف (ت. 1418ه/1998م) ضمَّ ثلث وصيتها للوقف، بعد بيع الدار، وشراء أرض كبيرة خارج صور البلدة، وبنائها بأحدث الوسائل، بتبرعات من المتوفى وغيره؛ تحولت إلى دار للصلاة، بنفس المسمَّى “المطياف”؛ وقد تطور المشروع، وصار محور مؤسَّسات تعليم الصلاة في البلدة إلى اليوم. وفي المركز تخرج العشرات من الأساتذة والباحثين في شتى فون العلم، وفي دار الصلاة تخرج الآلاف من المصلين الجدد”.

ويذكر أنَّ “شبكة الأنترنت” تمَّ توصيلها أوَّل مرَّة في بني يسجن، ولعلَّه في ميزاب، في مركز “المطياف القرآني”؛ ولقد استدعينا يومها فئاتِ المجتمع بكل أطيافها، لشهودُ الحدث التاريخي العلمي؛ أفرادًا وجماعاتٍ، وحدانا وزُرافات؛ حتى إنَّ أوَّل موقع تم حجزه في أمريكا، وعُرض على مئات الحضور من أعيان ميزاب وعلمائها، في دار الحجبة، بالتعاون مع شركة ألفا ديزاين، كان باسم “المطياف القرآني” (spectroscopquranique)”

ولا ريب أنَّ ثلَّة من الباحثين البارزين استفادوا من “المطياف القرآني”، سواءً في تعلُّم أساسيات البحث والعمل في الأنترنت؛ أو في طباعة بحوثهم للتخرج في مستويات الماجستير والدكتوراه؛ والمقام لا يسمح بذكر أسمائهم، ولقد والله أفادوا بعد ذلك وأجادوا؛ والله تعالى كفيل بمجازاة الواقفين (دادي سليمان، وآل جلمامي حاني، وآل محرزي… وغيرهم) ومن المشرفين والعاملين، وهم كثرٌ، ولقد بارك الله تعالى فيهم، فهم اليوم العلماء والمشرفون على المجتمع والأمة والوطن؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدَّلوا وما غيَّروا.

وإني أفشي سرًّا عن “دادي سليمان” وهو أنَّه يوم طَبعنا ضمن جمعية التراث “معجمَ أعلام الإباضية”، وكنا نجمّع الأموال بالاكتتاب للطبع والنشر، وكانت الخزائن فارغةً، والجيوب فاغرةً؛ يومها انبرى “دادي سليمان” واشترى عددًا غير يسيرٍ من النسخ، ثم طلب مني أن أهديها للجهات التي تستفيد منها؛ فأودعتُ بعضها مكتباتٍ داخل الوطن، وأخرى مراكز خارج الوطن؛ واليوم أرجو من الله أن يرزقه بكل حرف درجةً، فهو الفتاح الكريم، العزيز الحليم.

ولقد شاء الله تعالى أن أغادر “المطياف” إلى “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، وأن ينتقل إلى أياد أمينة؛ فاختار القائمون عليه أن يحولوه من مركز للبحث العلمي، وقد عزَّت أسبابُه، إلى دارٍ للصلاة؛ هي اليومَ المشروع الأوَّل لتعليم الصلاة وتصحيحها في بني يسجن؛ وقد انتقلتْ البنايةُ من داخل الصور إلى خارجه؛ وأسهم المتوفى رحمه الله في البناء، بعد أن أسهم بالوقف؛ نسأل من الله القبولَ للجميع، لعلَّ ذلك يكون له مبرَّة عند الله تعالى وهو بين يديه، وهل ثمة أعظم من وقف للقرآن أو للصلاة أو للعلم النافع؟

ولا ريب أنَّ المناسبة مناسبة تأبينٍ ونعيٍ، ولكنَّ الواجب والمسؤولية التاريخية تملي عليَّ أن أدلي بشهادتي عند الله مخافة أن ألَــزَّ في قرَنٍ مع من كتم الشهادة: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.
وليس أعظم ولا أفيد من الدعاء لله تعالى أن يثيب المتوفَّى “دادي سليمان”، وأن يرزق أهله الصبرَ والرضَا، وأن يبعث من عقِبهم من ينصر دين الله تعالى؛ إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.

د. محمد بن موسى باباعمي
مكتبة جامع السلطان قابوس، مسقط، عمان
12 شعبان 1445ه/22 فبراير 2024م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى