حيّ على الصّلاة.. حيّ على المحاضر..
ما إن يرتفع أذان العشاء معلنا دخول وقت الصلاة، حتى ترى حركة غير عادية تسابق الزّمن في أزقة البلدة، خطى متسارعة تسارع الدقائق والثواني، ولباس أبيض امتزج عطره الزكي بنفحات رمضان وروحانياته التي تعبق المكان والزّمان، وقلوب أشدّ من بياض الثلج ونقاء الماء العذب الزلال؛ لكن هذه المرة ليسوا مصلّين وليست الوجهة إلى المساجد كما قد يتبادر للدهن لأول وهلة.. الوجهة هذه المرّة هي المحاضر القرآنية في ربوع البلدة، والقاصدون هم صبية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، صبية لم يبلغوا سنّ التكليف، وأمارات البراءة والفطرة النقية تشعّ من تقاسيم وجوههم. وكلهم شوق وهمة للحاق بركب الخلان والزملاء والمعلمين في محاضر الإيمان في أطراف قصر العلياء.
محاضر أخذت على عاتقها مسؤولية رعاية الجيل وتغذيته روحيا واجتماعيا خلال الشّهر الفضيل، جنود مجنّدة من الأساتذة والمسؤولين يسهرون على تحضير برامج وأنشطة تربوية وإيمانية – ليس لغاية ولا لحظّ سوى الإخلاص لله والشعور بهمّ المسؤولية العظيمة- من أجل جيل يضع قدمه في ساحة التكليف ويلج أعتاب البلوغ بكل قناعة ووضوح، وبرصيد ثري من القيم والمبادئ الايمانية العالية، والعقيدة الدينية الصافية، والمكارم الأخلاقية الحسنة.
ولا شكّ أن الوعي بالحاجة والضرورة الملحة لبناء الجيل الصاعد وترشيد وعيه، وتطعيمه ضدّ الأوبئة والأمراض الفتاكة، ناتج من إدراك مدى الخطر الذي يهدده، من أشباح العصر المتوحشة، الفردانية بمعدلاتها المتصاعدة، والنزعة المادية التي تكرسها ثقافة الاستهلاك والأيديولوجيا الغربية الرأسمالية الشرسة، والفكر الإنسانوي الإلحادي وغيرها من السموم القاتلة، التي تترصّد المسلم ومنظومته الدينية في كل منعرج، وتسعى جاهدة لمحو معالم شخصيته من هذا الوجود.
المشروع التربوي للمحاضر القرآنية جسر متين يسعى لتغذية نزعة الولاء وحب المجتمع واحترام مثله وقيمه وأعرافه، لدى الجيل الصاعد، وهذه النزعة كانت ولا تزال ركيزة من ركائز المجتمع المزابي وسرّ من أسرار تميّزه وتألقه، استمدّت روح تألقها من قبس القرآن الذي أقرها واتخذها مبدأ في خطابه -الجمعي- للمكلّفين: (يا أيها الذين آمنوا…) ولأنها شعار رفعه النّبي صلوات ربي وسلامه عليه للصورة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع المسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا” فالبنيان المرصوص مشروط في حقيقته بعنصر أساسي هو الايمان الذي يحقق تلك اللحمة المرجوة وهذا الايمان لا يأتي من فراغ إنما يتحقق بفعل جهود ومساعي تربوية وفكرية ومتابعة مستمرة لترشيد الجيل وتغذيته.
تلك المحاضر التي تلهم الجيل وتنمي في نفسه الحب والولاء لأمجاد الماضي العريق الذين تركوا بصمة في تاريخ الحضارة المزابية، الإمام الكرثي، وقطب الأئمة، والشيخ إبراهيم بيوض بمشروعه الحضاري، وغيرهم.. ولا يزال الخلف يقتفي من السلف خير الأثر، ليحفظوا لهذه الأمة روحها ويمنعوها من الزوال.
المحاضر بمشروعها التربوي ثمرة من ثمار الفكر الإباضي الذي أرشد وأنضج الحضارة المزابية وبعث فيها الروح، ولا زالت المدارس القرآنية الحرة في ربوع الوادي معاقلا تحفظ هذا البنيان العتيق وترمّم في أطرافه وزواياه ما تصدّع منه بمرور الزمن.
وهكذا صار رمضان في ربوع بلدتنا مساحة زمنية يستمدّ منها الصّغير قبل الكبير قيمه الدّينية، ويشحن فيها روحه البريئة بالمثل العليا ويرتبط قلبا وقالبا بالقرآن، فما يكاد ينقضي الشّهر حتى يتخرّج جيل من هذه الفسحة الإيمانية وهو مزود بقيم التّعاون والتسامح، والأخوة والولاء والمحبة والاحترام، وكلها قيم ومبادئ تمهّد بمجموعها لبناء شخصية متوازنة مستقبلا وفردا فاعلا يكون قيمة مضافة في مجتمعه، وحينها ستغدو المحاضر ذكرى تطبع ذهنيّة هذا الجيل وتحيي فيه الشوق والحنين لذكريات الصبا في ربوع المحاضر العريقة.
بقلم عائشة بنت اطفيش خرازي