ثقافة الاستهلاك والهوية الجديدة

شهد العالم خلال مسيرة الإنسان التاريخيَّة والحضاريَّة تغيُّرات جذريَّة عدَّة مسَّت جوانب متعددة من حياته، وكل تغيُّر أو أي ظاهرة جديدة في منظومة الحياة إلَّا وينتج تلقائيًّا ومنهجيًّا وراءها فروقا بارزة وحدا فاصلا فيما يتعلَّق بالماقبل والمابعد، ما قبل الثورة الكوبرنيكية وما بعدها، ما قبل الثورة الصناعية وما بعدها، الثورة التكنولوجية، الثورة العلمية، العلمانية، الحملات الاستعمارية..إلخ والآن مثلا نتحدث جميعا عن العالم ما قبل كورونا وما بعد كورونا.
طبعا إن ما يسعى إليه الانسان في مختلف فقرات مسيرته التاريخية على المستوى الفردي والجماعي، البحث عن المعنى في الحياة ربما أو تحقيق الذات، ترك أثر طيب أو العمارة الكونية والخلافة المتوازنة، أو يريد الهيمنة والتحكم مثلا، أو التملك والتسلط، أو الشعور بالراحة والطمأنينة أو أيضا الشعور باللذة في الحياة وكل ذلك يندرج في إطار بحث الانسان عن السعادة وقد تحدث فريدريك لونوار في كتابه رحلة فلسفية عن السعادة، طبعا يتعلق هذا الموضوع بشكل مباشر بمعتقدات الانسان الدينية والفلسفية وكذا المنظومة التي تعيش فيها وطبيعة المجتمع.
لتحقيق المساعي التي يرغب الانسان أن يعيشها على المستوى القلبي والوجداني والتي طبعا تزيد من تقديره لذاته بشكل أو آخر، يجب عليه الحرص على منظومة العمل والإنتاج، وهذه طبعا إحدى القواعد المنطقية القاعدية، والتي مفادها أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش ويستهلك دون أن يعمل ويكد وينتج. ويرتبط هذا الأمر طرديا مع رؤيته الخاصة الذهنية للحياة ومدى رغباته النفسية ونمط حياته الفعلي بمدى انتاجه المادي، كمكون رئيسي إضافة إلى اقتصاده وحسن تسييره وتقديره ومدى ادخاره. كل هذه الأمور وغيرها تجعل أي شخص يحرص على عمله ويقدسه ويخاف على مكانه في الشركة والمؤسسة ويبذل قصارى جهده ليحافظ على منصبه الوظيفي ما سرع عجلة الإنتاج وحولها إلى سلسلة ضخمة كبيرة تعمل بوتيرة رهيبة صباح مساء -خاصة في المجتمع الرأسمالي- للتمكن من تحقيق البيع والربح الأوفر وهذا لم يأت اعتباطا ولكنه اندرج في إطار نموذج كلي على المستوى ما بعد الحداثي وقد نظر وأسس لذلك مفكرون وعلماء اجتماع واقتصاديون مثل ثورستين ديبلين(1) وغيره.
سلسلة الإنتاج الضخمة والمتسارعة أجبرت أي انسان مصنع لأي منتج أن يوفر استهلاكا وبيعا كبيرا موازيا من الجهة الأخرى لضمان تكافؤ وسيرورة المعادلة ما جعل الشركات والمصنعين يركزون على الدعاية لمنتوجاتهم على عدة أصعدة إعلام، تسويق، ملصقات، إعلانات، فيديوهات…إلخ وهذه أنتجت بالمقابل منظومة الاستهلاك، ثقافة الاستهلاك، النزعة الاستهلاكية، الاقتناء والرغبة في التملك، الرغبة في الاستهلاك، المجتمع الاستهلاكي.
موضوعات الاستهلاك في المجتمع الاستهلاكي أضحت غاية تقصد وآلهة تعبد ويتقرب إليها بالقيم ربما أو حتى المبادئ وجزر هوية تشد إليها الرحال نعم ولذلك سميت العنوان بالهوية الجديدة لأنها أصبحت إحدى مقومات الإنسان التي لا يمكن له أن يستغني عنها بسهولة نظرا لأنها ترضي أناه الذاتية وغريزة التملك بداخله وهنا يقول أحد المفكرين أن الأنا ساعدت دوما الإنسان ليتقدم، وفي هذا الصدد يقول المفكر زيجمونت باومان: “إن الحياة الاستهلاكية حياة سائلة، إنها تجعل من العالم بكل أحيائه وجماداته موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها عند استخدامها واستعمالها وتفقد معه سحرها وجاذبيتها وإغوائها وإغرائها، إنها تشكل معايير تقييم أحياء هذا العالم وجماداته، وفق نموذج موضوعات الاستهلاك. وهذه الموضوعات لها عمر افتراضي نفعي قصير، وإذا انتهى فلا يصلح استهلاكها ويجب إزاحتها من ساحة الحياة الاستهلاكية إلى عالم التحلل الحيوي وشركات القمامة..”(2) وفي نفس النسق أعلن نيتشه ظهور عالم يتسم بالسيولة واختفى فيه مفهوم الوجود الثابت المستقر، ودعمه شوبنهاور في ذلك المنحى، ويرى نيتشه أن الحياة هي النمو وليست مجرد البقاء، وهي الرغبة في الاقتناء والزيادة في الاقتناء وهي التغير والصيرورة بلا ثبات (غابة داروين الرائعة)(3)
- نموذج الانسان الأميكي:
يعتبر الإنسان الأمريكي من أكبر مناصري ظاهرة الاستهلاك منذ نشأتها في عصر ما بعد الحداثة وأكبر الضحايا في الوقت ذاته، ويمكن أن نقول إنه أول من عزز ثقافة الاستهلاك على مستواه المحلي والعالمي، وذلك بعد الثورة الصناعية وتم تدعيم هذا النموذج من خلال مسلسلات كثيرة وشهيرة مثل دالاس، وفيديوهات أفلام وأشرطة وثائقية ركزت كاميراتها وعملها على حياة النجوم والفنانين والأثرياء والمغنين ومنازلهم وسياراتهم وأسفارهم وقصورهم وحدائق حيواناتهم وهذه تبرز النزعة الفردية والتملكية والبذخ الذي يمكن ان تتم مشاهدته من قبل المتابعين فقط نظرا لأنها خارقة للعادة وأتذكر جيدا منذ سنوات شريطا مر علي يصور دار akon ، كما قد لحظنا السيارات الفخمة والفيلات الفاخرة التي تصور فيها أغلب الفيديو كليبات وهنالك شركات لكراء هذه الحاجيات طبعا لضمان نجاح الأغنية أو الفيديو كليب،(4) وقد تم تدعيم هذه النزعة جيدا من خلال الإشهارات الإعلامية والتي أصبحت تمس لذة الاستهلاك في المتابعين على الصعيد العالمي.
- البروباغاندا الإشهارية:
قد طرح في يوم ما سؤال منطقي ذكي متعلق بالاشهارات التي تلعب دور البروغاندا لثقافة الاستهلاك مفاده، إن إشهارا لا يتجاوز 30 ثانية في عرضه لم يتطلب في تسجيله ترسانة كبيرة من المختصين وفريق عمل تقني محترف متكون من غرافيست وتقني فيديوهات أنيمي ومصورين فيديو ومختصين في هندسة الصوت.. إلخ.
كل هذا لتشتري وتقتني وتتملك ما هو ضروري مفيد لك طبعا، وما كذلك ما ليس بضروري ولا حاجة لك فيه، وفي هذا الصدد فإن الدراسة الواقعية أبرزت أن الإنسان الأمريكي المنتمي إلى الطبقة المتوسطة ممكن، يحوي في منزله مئات الأشياء والأغراض وكل الحاجيات والمستلزمات التي قد يحتاجها والتي قد لا يحتاج أو يستعملها مرة في السنة أو قد يستعمله ربما في يوم ما، ما جعل الإنسان لا يمكنه نقل أغراضه في شاحنة واحدة ولكن يجب اللجوء إلى شركات تحميل الأغراض وتحويلها وهذا أدى إلى رواج شركات النقل والتوصيل بمختلف الأسعار والعروض، ولكنا يعرف قصة إسلام جيفري لانغ وأن شركة توصيل رخيصة الثمن تسببت في عدم ضمان إيصال مكتبته حينما حول أغراضه ما أبقى له إلا جرائد قرأها عدة مرات وكتاب قرآن قرأه لأول مرة في ذلك اليوم والقصة مشهورة .(5)
في إطار ثقافة الاستهلاك هنالك دراسة رائعة ومهمة جدا أبرزت علميا أن الموسيقى الهادئة في مزارع البقر لها أثر إيجابي في تحسين إنتاج الحليب(6) لتلك البقر وهنالك من يتحدث عن نوع من الموسيقى الهادئة ويسميها Musique sentimentale lactogène أي منتجة للحليب، نظرا لأنهم وجدوا أن الموسيقى تساعد على التخلص من التوتر ما يساعد في إفراز هرمون الأوسيتوسين والبرولاكتين المسؤولان عن إنتاج الحليب، فقال خبراء التسويق لم لا نجرب ذلك على البشر لربما قد يكون مفيدا، ولذلك تجد في كل شوبينغ مول أو سوبر ماركت أو ما تسمى بالمساحات الكبيرة موسيقى هادئة تشغل منذ أول اليوم الى آخره، أو ممكن موسيقى صاخبة أحيانا حسب المقياس أو حسب نوع البضائع الموجودة في تلك المساحة داخل المول وطبيعة ما يباع خاصة ما يتعلق بالشباب، وقد دعمت هذه الدراسة وطبقت حتى في نقاط البيع العصرية والمقاهي والمطاعم.
في هذه الأيام كنت أتابع برنامجا مهما في إحدى القنوات الخاصة الجزائرية وكل مرة يقطع البرنامج بالإشهارات، وقمت بالعد وجدت أكثر من 15 إشهارا في دفعة واحدة وصادف تتابع إشهارات الحليب لأكثر من 5 أنواع الواحد تلو الآخر، وكل نوع بطبيعة الحال يدعي الكمال المطلق والأفضلية حتى اختلطت الأمور، إن كانت كل تلك الأنواع المتتابعة تدعي الأفضلية فأي نوع هو غير المناسب إذا!!؟؟ أخبرني أحد الإخوة بجانبي أنه ما الفائدة من هذه الإشهارات إن كنا لا نشترى أبدا تلك القهوة أو ذلك الصابون، فقلت إن التأثير يمكن على المستوى اللاواعي وأنه وإن صادف في يوم من الأيام دخلت في حانوت ووجدت مجموعة جديدة مختلفة من الصابون مثلا لأول مرة تراها، فاعلم أن الاختيار لديك سيتجه إلى ذلك الذي رأيته في الإشهار دون انتباه، وطبعا علماء النفس الاجتماعي يهتمون كثيرا بهذا الموضوع ويعملون فيه بشكل كبير جدا، فمثلا التقيت كثيرا من الشباب المتمدرسين في الثانوي، يشتري هاتفا جديدا في يوم ما وبعد ذلك في العام المقبل ينتج هاتف من ذلك النوع ولكنه إصدار جديد، فيشعرون تلقائيا بحالة نفسية تجمع بين الاكتئاب والقلق والتوتر نظرا للتأخر وعدم المواكبة، هذا دون أن نتحدث على من يملك هاتفا عاديا، بالنسبة للأخير فالكارثة عند النساء مثلا ممن يشعرن بالإحراج الكبير والخجل وعدم تقدير الذات حينما تأتيها مكالمة هاتفية فتخاف أن تخرج الهاتف لتجيب نظرا لأن هاتفها من النوع القديم وليس هاتفا ذكيا فتكون أضحوكة لدى بعضهن.
من يريد أن يكتشف تأثير هذه الظاهرة ما عليه إلا أن يراقب الزحمة الكبيرة أمام شركة أبل في يوم بيعها للمنتوج الجديد.. ولا أعلق.
لست هنا طبعا أعيب الإشهارات أو أنحو ضدها ولكن أود أن أشير الى أن شراء أمر لا يحتاجه الإنسان أو استهلاك شيء هو في غنى عنه أو له أولويات أخرى أو لأنه انبهر باللاعب الفلاني أو المغني العلاني ممثلا به في الإشهار، فهذه عين السذاجة والغباء، (من أهم الوسائل المساعدة في الإشهار على بيع أي منتوج بشكل كبير واسع النطاق وسيلة ما يسمى بتأثير الهالة أو halo effect ولأترك لك أخي القارئ عناية البحث عن الظاهرة وتمثلاتها وتمظهراتها).
هنالك دراسة تفيد بأن أكبر المستهدفين ثأثرا بالإشهارات هم الأطفال ما قبل سن المراهقة والمنتوجات التي تخص تلك الفئة، وقد أظهرت الدراسة أنهم يتأثرون باتباع الإشهارات نظرا لغياب العقل الناقد أو المرجح عندهم، وكذا لغياب الثقافة المالية والعلاقة مع المال، لذا يجب منعهم من متابعة الإشهارات وهنالك دول أخذت هذا المنحى بمنع الإشهارات الخاصة لفئة أقل من 12 سنة في أي قناة تليفزيونية وإذاعية.
أكبر إشكال يترتب عن أزمة الاستهلاك هو ربط الإنسان بالعالم المادي واستيعابه داخل ذلك النموذج ما يسميه مالك بن نبي عالم الأشياء من جهة، ومن جهة أخرى سيصبح ذلك مع الزمن إحدى مقومات الهوية ما يجعل الإنسان يعيش في دوامة خطيرة قد يفقد فيها علاقاته الاجتماعية جراء النزعة الفردانية المتولدة من ثقافة الاستهلاك أو التأثر بأي إشكالات اقتصادية أو أزمات مالية نظرا لكونها تمس بشكل مباشر توفر منتوجات الاستهلاك أو ما يسميه باومان بموضوعات الاستهلاك وهنا يفقد الانسان حريته الذاتية.
- المخرج من أين!!
مفهوم التحرر والتجاوز من المفاهيم الحضارية الفكرية الإنسانية العميقة والتي لطالما يحتاجها الانسان في هذا الوقت الحضاري الصعب والسائل، مع كثرة الملذات والملهيات والانشغالات في عصر تداخل المفاهيم وتقاطع المصالح مع المبادئ القيم وغياب المعنى، إلا أن معنى أن تكون متحررا أي أن يملك الإنسان نفسه وشهوة التملك والاقتناء بداخله وأن يتحكم فيها ويكبح جماحها حسب احتياجاته الفعلية، ولعل من أعظم الشهور عند الله شهر رمضان والذي يعتبر رحلة بحث عن المعنى ورحلة تعلم الإنسان التحرر، التحرر من المباحات ومن الضروريات، فالإنسان الصائم الممتنع عن الاكل والشرب خلال شهر رمضان كاملا يمكنه من باب أولى كبح نفسيته من الاستهلاك والاقتناء والتملك وكذا الانغماس أكثر فأكثر في النموذج المادي.
أن تتحرر يعني أن تتجاوز المادة وأن ترتبط بالمعنى
أن تتحرر يعني أن تترك مسافة الأمان بين الذئاب الهيجلية بداخلك وما تحتاجه فعليا وعقليا في واقعك
أن تتحرر يعني ألا تكون ضحية نموذج ولكن أن تعمل وفق نموذج ورؤية للكون.
- أنظر كتاب Théorie de la classe de loisir
- أنظر كتاب الحياة السائلة، زيجمونت باومان
- أنظر كتاب نيتشه وجذور ما بعد الحداثة، أحمد عبد الحليم
- أنظر مقال د. عبد الوهاب المسيري، الفيديو كليب والجسد والعولمة
- انظر محاضرة المعنى من الحياة لجيفري لانغ
- انظر دراسة Production laitière, De la musique pour des vaches zen et productives
عبد الهادي الشيخ صالح