مرآة الصحافة

من غرداية… أنوار للهداية

الأستاذ عثمان أمقران، زار غرداية بدعوة من شعبة جمعية العلماء المسلمين، فكتب كلمات من ذهب تعبر عن مشاعر جياشة خالصة، ووصف أهل المدينة وعلماءها بأجمل الصفات وأنقاها، حتى يخيل للقارئ أن تلك المنطقة تحوي ملائكة الله في الأرض، لا بشرا، فاللهم اجعلنا فوق ما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون…

نص المقال كما ورد في جريدة البصائر الجزائرية:

عزيزي القارئ سأستنأف “سياحاتي في رياض القرآن الدمثاث” في الأسبوع القادم بإذن الله العلي القدير. فقد جاءني نبأ اهتمام الكثيرين من علمائنا الأفاضل بما حوت ووعت من “جواهر حسان” هي من منن الواحد الديان وأفضاله التي لا يستوفيها الحمد والشكران بأفصح لسان وأبلغ بيان.

ويسرني –اليوم- أن أسوّد هذه الصفحة بالحديث عن الزيارة الدعوية المباركة التي نظمتها لي شعبة جمعية العلماء في غرداية مشكورة مقدورة ومأجورة بمناسبة يوم العلم وكان لها وقع “الصيب الطيب” على حاضرة الولاية وأفاحيصها ولله وحده المنة والحمد، ويعلم الخاص والعام أن جمعية العلماء من القلب في السويداء وارتباطي بها فكري وروحي بالأساس لا دخل لتنظيمها الهيكلي فيه وهو ارتباط من القوة والمتانة بحيث يجعل أمر شد أزر شعبها المحلية في نشاطاتها العلمية والدعوية والثقافية ميسورا- وإن شاء الله- مبرورا.

وقد شرفت (بضم الراء) – والله – من أمد غير بعيد بتأسيس الكثير منها في ولايات لا أحصيها عدا زمان تقلَّدي مهمة “المراقب الوطني العام” ثم انخلعت عن كل ارتباط تنظيمي بها. وسأظل على انخلاعي هذا غير وان ولا واهن في خدمة منهج رعيلها الأول الإصلاحي –كتابة وخطابة- عبر شعبها كلما دعتني لذلك أو عبر أي قناة من القنوات الإعلامية الأخرى محلية كانت أو غير محلية، عربية كانت أو غير عربية.

هذا لكم عهدي بـــه  ***  حتى أوسد في التراب
فإذا هلكت فصيحتي  *** تحيــا الجزائر و العــــرب

شعبة غرداية: الديدبان اليقظ
كم كان –علم الله- اغتباطي عظيما كلما تفضل رئيس الشعبة الشيخ “إبراهيم بوصبع” وهو يقدمني إلى جماهير المؤمنين من الإباضيين والمالكيين بذكر دوري في تأسيسها سائلا رب العالمين أن يتقبل ذلك مني ويثقل به ميزان حسناتي.

وشعبة غرداية – كما عرفتها- من بضع سنين خلية حية من خلايا الجمعية طافحة بالحيوية ناضحة بأنوار الهداية الربانية على محيطها الاجتماعي والثقافي، بلغت بحضورها الدعوي إلى مختلف المؤسسات المحلية الدينية والتعليمية والعلمية والإعلامية والخدماتية والخيرية.
وقد لمست عن كثب مبلغ التأثير الإيجابي الذي أحدثته في نخب المجتمع المدني بالخصوص وذلك من خلال اللقاء الإيماني والفكري الذي نظمته بغرداية وجمع أبرز الوجوه الإدارية والفكرية والدعوية والعلمائية فكان بحق ترجمة حية لمسعاها الدائب لجمع الكلمة وتوحيد الصف وملاحقة عقابيل التفريق والتمزيق ودحرها في مهدها قبل أن ينجم لها قرن أو يمتد لها عرق.
وقد دعيت (بضم الدال) فيه إلى قول كلمة تنير القلوب وتضيء الفكر وتغذي العقل وتحفز الهمة فألقيتها ولقيت قبولا عريضا في الحشد المدني الذي استجابت طلائعه القيادية فجاءت ردودها الخطابية تحمل أنداء الصفاء الروحي والنقاء الفكري مشفوعة بالعزم الوطيد على حماية النسيج الاجتماعي من مخاطر الهتك الماكر وويلات الفتك الجاهر، وكانت اللازمة التي تخللت خطابي فيه قول من قال:

كونوا جدارا لا صدع فيه  ***  وصفا لا يرقع بالكسالى

ودققت – أيما دق – على ضرورة اليقظة الروحية وحتمية الإحاطة الفكرية بألاعيب شياطين الإنس لكشفها وفضحها وبيان عوارها للرأي العام المحلي حتى يتلافى فخاخها وينأى بجانبه عن أخاديدها المستعرة بنيران الحقد والضغينة. وقد حمل كلامي تحليلا عميقا لأسباب اختلاف العلماء والفقهاء وهو اختلاف تنوع ورحمة لا اختلاف تضاد ونقمة.
وأعظم بصلة شعبة غرداية بالإعلام المحلي ممثلا بالخصوص في إذاعة غرداية الفتية التي اقتبلنا إطاراتها الصحافية والتقنية اقتبالا حفيا وفتحوا لجمعية العلماء فضاء بثها الوسيع وتم – في خلال ساعة كاملة- عرض منهج الجمعية الفكري والإصلاحي وجهود الرعيل الأول المؤسس لها لإرساء البناء الحضاري على قواعد الإيمان الديني والتنوير العقلي والتوحيد الحركي لتيار المقاومة لكل مظاهر الاستلاب والاغتراب التي رسخها الاستكبار الفرنسي الطاغي في الجزائر، تاريخا وثقافة ولسانا، مما كان له أطيب الأثر في إنماء الوطنية الدينية وإحداد الشعور بالذات وكان أعظم دافع إلى الانتقاض عليه وتحرير البلاد والعباد من همينته العاتية واحتلاله البغيض.
وكان الحوار شاملا لآفاق حركة الإصلاح العلمائي ومعالم استراتيجيتها في تقويم المسار الوطني بكل أبعاده خاصة في جوانبه الفكرية والدينية والثقافية، وأمكن للعائلات الإباضية والمالكية أن تتعرف بصورة وافية لملامح المشروع النهضوي الذي تضطلع به جمعية العلماء وأنجزه أقطابها الأولون على نحو باهر، وقد رصد رجال شعبة غرداية ونساؤها أصداء ذلك الحوار الإذاعي الذي شاركني فيه الشيخ “إبراهيم بوصبع” رئيسها والدكتور “مسعود بابكر” أحد أعضائها البارزين، فاتفقت كلمتنا على بركة آثاره الحميدة في تقوية الإيمان وتندية الجنان وتجلية الأذهان وتعلية قيم التناصر والتعاون على كل ما يزيد الأمة علوا في الدين والدنيا.

لا علم بلا علماء ولا علماء بلا سمت الأتقياء
وهل يحمل العلم إلا العلماء؟ وقولي “لا علم بلا علماء” المقصود منه أنه يتولى نشره العلماء فهم الحقيقون بالحفاوة لأنهم ورثة الأنبياء ونشره إنما يكون بعد حمله عن حق وحقيق. وحمله إنما يكون من “عدولهم” الذين ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وهذا هو المقصود من قولي “ولا علماء بلا سمت الأتقياء” وكيف يكون تقيا عالم باع دينه للسلاطين والحكام فاشترى بدينه دنيا غيره.

هذا بالذات ما ميز رجال العلم وحملة الفقه في جمعية العلماء، وقد دارت حوله بالذات حلقات الذكر التي لا تني شعبة غرداية في تنظيمها لرواد بيوت الله ويطبعها في الغالب الأعم طابع الإنارة لا الإثارة مستلهمة نهج رجالها السابقين من الرعيل الأول. فقد كانوا يبصرون (بضم الصاد) بالبدعة وبالباطل من القول والمنكر من الفعل فيسارعون إلى كشف الغطاء عن ثلاثتها بأسلوب الدعوة الرصينة في غير لجلجة ولا مداراة ولا إدهان ولا اتباع لهوى في نفس أي كان ولو كان فيه إغضاب الأنام جميعا يرشدهم قول من قال في اعتزاز بالكبير المتعال:

ليتك تحلو والحياة مريــــــــرة  *** وليتك ترضى والأنام غضـــاب
وليت الذي بيني وبينك عامر  ***  وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين  ***  وكل الذي فوق التراب تراب

وقد سنحت حلقات الذكر تلك التي دعيت إلى تنشيطها في مساجد المالكية في غرداية ومتليلي ومساجد الإباضية في حاضرة الولاية بالخصوص، سنحت –أقول- بعرض نهج العلماء في ملاحقة مظاهر الشرك وظواهره وتعقب تبجحات المبطلين وتنفجاتهم للصد عن سبيل الله من أمن به ولبس الحق بالباطل لتزيين عزل الدين عن الحياة. وشهدت بيوت الله احتشادا باهرا لروادها الذين غص بهم رحابها ولعل مسجد الغفران الذي يؤمه إخواننا الأباضية بالخصوص يمثل نموذج المؤسسة المسجدية العصرية التي تعددت وتنوعت مرتفقاتها الدعوية واتسعت مساحاتها المعمارية حتى لتجد فيها حيزا لحظيرة السيارات الخاصة بروادها وزوارها، وأبهر ما يبهرك في مسجد –الغفران- استقباله لعشرات العلماء والدعاة من الجزائر وخارجها. وفتح جمعيته الدينية لهم موقعه الالكتروني لنقل ندواتهم ومحاضراتهم عبره إلى العالم أجمع وأرشفة كل ذلك في سجل الكتروني غاية في الدقة والشمول وإنشاء مكتبة خاصة للأقراص السمعية والسمعية البصرية تحمل العلم إلى طلابه في كل مكان، تضارع المكتبة الورقية الضخمة التي يزدان بها جناح المعهد الملاصق للمسجد والمفتوح لطلبة العلم لا ينتظر إلا تدشينه في الإبان.

ويشترك مسجد –الغفران- مع سائر مساجد حاضرة الولاية في ربط حلقة العلم والفقه بدور السكان المجاورة. فيتسنى بهذا الربط عبر أدوات النقل الصوتية إيصال أصوات العلماء والدعاة إلى كل بيت من البيوت هذه -لعمري- خاصية يتميز بها إخواننا من سكان وادي ميزاب الخصيب لا أعلم أن في حواضر الجمهورية مساجد لها مثلها.

وقد تاح لي إلقاء محاضرة في ذلك المسجد الذي يمثل “تحفة معمارية” فريدة جاءت على مقتضى المعمار الميزابي المتميز. فبادرت جمعيته الدينية المباركة إلى تسجيلها وكانت بعنوان”العلم وأثره “في تربية الأفراد والمجتمعات، لمس الجمهور الكثيف الذي سمعها مبلغ ما يزخر به الإسلام من طاقات علمية جبارة غيَّر الله بها مجرى التاريخ وتمثلت حق التمثل هداياته وتشربت أنواره وتعمقت أسراره فأفاضت على البشرية من العلوم النقلية والعقلية ما أخرجتها به من ظلمات الشبهات والشهوات إلى نور الحضارة والعمارة والبشارة بفضائل السلام والأمن والنماء والرخاء.

وكانت تلك الطاقات العلمية الجبارة مثال التلاقي الباهر بين الدنيا والآخرة، بين السماء والأرض، بين العقل والنقل، بين المادة والروح، بين الماضي والحاضر، بين الحاضر والمستقبل، بين العمارة والحضارة، بين التنمية المادية والتنمية الروحية.
فلا جرم أنشأ العلم في الإسلام خير أمة أخرجت للناس علمها دين ودينها علم لا وجود بتة – لصراع أي صراع – مفتعل بين هذا وذاك أو بين الرجل والمرأة أو بين الدولة والدين أو بين الرهبانية والجهاد. ذلك أن الإسلام هو دين” اقرأ باسم ربك الذي خلق”، ودين الدولة المدنية المؤمنة التي تحمي الدين بالدنيا وتحرس الدنيا بالدين، العلماء فيه هم الأدلاء على الهدى المستقيم يحملون أمانة الدين في شموخ القديسين ورسوخ الحواريين يعانقون علوم الدنيا معانقتهم لعلوم الدين، يوالون الله ورسوله والذين آمنوا ويحكمون بالدين على الملوك والأمراء والسلاطين والرؤساء ولا يبيعون فانيا بباق  ولا دنيا بدين. فهم الحكماء البصراء بمقاصد الشريعة والخبراء بخالق الإنسان والطبيعة [الرحمان فاسأل به خبيرا].

شعبة غرداية منارة للعلم والهداية
وهذه شهادة حق أثبتها هنا ولوجه من هو على كل شيء شهيد. إن شعبة غرداية منارة للعلم والهداية، ضمت في صفها خيرة الرجال من وادي ميزاب، منهم العالم بالشرع الداعي إليه في حرارة وحنكة ومنهم الطبيب كالشيخ “مسعود بابكر” أحد أطباء العيون المرموقين في ذلك الوادي الخصيب، كان سببا في بعث مؤسسة العناية والرعاية بالمعوقين ذهنيا “les handicapés mentaux”
فأنت –عند زيارتها- تنفحك نسمات و نفحات الخير التي ترسلها جمعية العلماء في فجاج الأرض لتعطر بها مسامَّ الأرواح المهدودة المكدودة بنتن وعفن الشر الذي يصنعه وباء العلمانية الفتاك الهتاك.
ومنهم العالم المهندس والعالم الفيزيائي والفقيه الأصولي والأديب الأريب ومنهم …ومنهم…ومنهم… إنها شعبة قل لها مثيل تزحف زحف النبوة الهادية باتجاه الأرواح والقلوب والعقول لتعبّدها لمن خلقها في هدوء أولي الألباب وعزم الرجال الصلاب ويقين الموقنين بعلو الحق الغلاب على الباطل الهاري التبَّاب .

تحية لعلماء الوادي
فتحية لك “يا شعبة غرداية” وتحية من خلالك لأهل وادي ميزاب أهل المضيافية والأريحية والشمائل الخلقية الرضية. وسلام على علماء الوادي الخصيب من أمثال الشيخ الجليل “بيوض” و”طفيش” و “القطب” و “الدهمة لخضر” الذي لا يزال حيا يرزق لم تفت في عضده السنون التي بلغت به إلى ما بعد الثمانين حولا. ولم أرى منه  سأما من الحياة بل رأيت حواشيه تتفجر بالعافية السابغة ونواحيه بالحكمة البالغة.  تعجب لمرح أعطافه وغمر ألطافه وسعة مجمه وواسع عطنه.
وتقرأ العديد مما خطه يراعه السيَّال وأوحى به عقله الجوَّال، فترى رجلا صان علمه ودينه من دنس الطمع في ما في أيدي الناس واستوى به على أفق الهمة القعساء والذمة النبهاء والعزة بربّ الأرض والسماء.

يا علماءنا يا ملح البلد  ***  من يصلح الملح إذا الملح فسد

ولا يعادي العلماء إلا الجهلاء السفهاء وتلك سنة الله في خلقه. فقد قال وقوله الحق: ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ” (الفرقان:31).
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لكل من اهتدى آمين…والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

عثمان أمقران


المصدر: موقع جريدة البصائر الاثنين 10-16 جمادى الثانية 1431هـ / 24-03 ماي 2010- العدد: 497

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى