صحافة أبي اليقظانواحة المعرفة

العلم والعمل

إن العمل هو الغاية المقصودة من العلم والمثل الأعلى لطلابه، والعلم مهما بلغ فضله ليس إلا وسيلة للعمل، ولا يكون له من الثمرة إلا بقدر ما يعمل به، والعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.

ولا يكون علم الطالب مثمرا إلا إذا كان مخلصا في طلبه، معتقدا أنه إنما يتعلم ليعمل لا ليقال إنه عالم، مكررا لكل درس استفاده، مطبقا له بالعمل في الخارج حتى يهضمه فكره، وينضجه عقله، و تتعوده جوارحه، فيكون له كالعادة، أما طلبه لرياء، وسمعة، وحشو الدماغ به، بدون تطبيقه في الخارج، والتصرف فيه، وتوليد بعضه ببعض بالبحث والنظر، فكمن يكدس أكياسا من الدراهم في خزانته بدون أن يتصرف فيها لمنافعه، كإزالة ألم الجوع والعطش وسائر الطوارئ، ولا يأمن عليها أيضا من السلب والنهب والحرق، ومن الأمراض المزمنة الفتاكة بالمسلمين، تركهم للعمل وعدم اكتراثهم به إلى أن بلغوا من الانحطاط والهوان ما بلغوا.

ليست الأخطار المحدقة ببلاد الإسلام كلها لجهل المسلمين وعدم إقبالهم على العلم فحسب، ولكن السبب الأعظم فيها إنما هو تركهم للعمل، وتهاونهم بما يأمر به الدين.

إن المسلمين على اختلاف طبقاتهم من راعى الأنام إلى راعي الأغنام يعلمون وجوب الصلاة والزكاة، والصوم، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وغيرها، يعلمون حرمة قتل النفس، والفجور، والخمور، والظلم، والربا، وأكل أموال الناس إلخ… فهل هم يعملون بعلمهم هذا، فيمتثلون أوامر الدين ويجتنبون نواهيه؟ كلا ولئن عمل أحد منهم به فهل يعمل بصدق وإخلاص؟ إلا من شاء الله!

كل منا يعلم ما بيننا وبين الصحابة والسلف الصالح رحمهم الله من البون العظيم، والفرق الشاسع، ولكن هذا بماذا؟ أبغزارة العلم منهم وعراقتنا في الجهل؟ ألأنهم يعلمون أمور الدين الضرورية ونجهلها؟

كلا يا أخي فلنا عقول كما لهم عقول، وقد قامت علينا الحجة بأمور الدين كما قامت عليهم، بل اتسعت دائرة العلم في عصرنا هذا وتوفرت أسبابه، وسهلت مرافق الحياة لدينا أضعاف ماكان لديهم، ولكن الفرق بيننا وبينهم هو، أنهم يعملون بعلمهم ويعملون بإخلاص، ونحن لا نعمل به، وإذا عملنا به فبرياء وسمعة إلا ما ندر.

وسبب ذلك راجع إلى الجرثومة الأولى من الحياة فهم قد تغذوا لبان المعارف من ثدي النبوءة صافيا سائغا للشاربين، فشبوا وترعرعوا في حجرها وما تركتهم إلا وهم رجال عظماء، خلفاؤها في الأرض فتغذت بغذائهم الصافي أجيال متتابعة.

أما نحن معاشر المسلمين الآن وان كان منهلهم الصافي موجودا عندنا، فقد أقام حوله الناعقون والمتشبهون بالعلماء أسلاكا شائكة من الشبهات والخرافات، عاقت المتعطشين عن الورود منه والاكتراع من حياضه مباشرة، ولم يمكنهم أن يتناولوا منه شيئا إلا على أيديهم، وبوسائطهم بعدما يمزجونه لهم بجراثيم السل الاجتماعي، فيشب المساكين وهم مشلولون لا يقدرون ـ والحالة هذه ـ أن يزيحوا عن أنفسهم وبلادهم رهقا، أو يجلبوا لهم عزا، اللهم إلا من له مهارة فائقة في الاحتيال للوصول إلى ذلك المنبع الصافي وهو قليل.، ولأجل ذلك ترى جل المسلمين في واد، والعمل بدينهم في واد، وقد زهدهم في العمل به أمور:

أولا: ظنهم أن العلم كاف في نيل السعادة الخالدة، وأن العمل لا دخل له فيها بالمرة، فانحلت بهذا عقدة الإسلام، وامتهن أمر الدين، فضاعت حكمة التشريع وإرسال الرسل وإنزال الكتب.

ولو جعل بجانب وجوب العلم وجوب العمل ووضعت القوانين والنظامات للعمل، كما وضعت للعلم وتشددت الرقابات على العمل كما كانت على العلم وفتحت ميادين المسابقات والامتحانات في العمل، كما كانت في العلم، لكان للمسلمين شأن وأي شأن، ولكن أنى هذا؟ والدروس العلمية على اختلافها جافة خالية من روح التطبيق ووجوب العمل؟ حتى أن التلميذ يستشعر من نفسه أنه لم يكلف إلا بتحصيل العلم فقط، كما حكي أن تلميذا يسهر لمطالعة دروسه إلى مؤخرة الليل ويترك صلاته فقيل له في ذلك فقال إن والدي أرسلني لطلب العلم لا للصلاة!

 ومن العار الفاضح أن يقوم التلميذ من درسه وقد أقيمت الصلاة فيخرج من الجامع وإذا ما ظن فراغ الناس من الصلاة رجع لبقية دروسه.

ثانيا: القدوة السيئة بالعلماء فإذا كان العالم نفسه مثال التهتك والاستهتار والتهاون بالعمل وبالدين فما ظنك بتلاميذه؟ وإذا كانت طبقة أهل العلم على هذا الشكل فكيف تكون طبقة العامة والأميين الذين يتخذون علماء الدين ومن ينتسب إلى العلم هداة يقتفونهم في مفاوز الحياة؟

إذا كان رب البيت للطبل ضاربا      فلا تلم الصبيان فيه على الرقص

ثالثا: ضعف الإيمان والعجز والكسل عن تحمل مشاق العمل الذي يأمر به الدين ولا سيما ما يوهم أن فيه ضياع المصلحة الخاصة أو جرح العواطف كواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

رابعا: سكوت العلماء وسراة الأمة عن قمع المتشردين، وردع المتمردين، فإن هذا الداء داء غض النظر عن الجرائم والموبقات، ركونا إلى الراحة وإخلادا إلى السكون في قعر البيوت، وخوفا من الأضرار الموهومة، مما ألبس أولئك رداء الذل والعار والصغار، وجرأ هؤلاء على هتك الحرمات وتمزيق ثوب الحشمة والوقار، وخصوصا إذا فتحت لهم المدنية الغربية أبواب المفاسد والشرور على مصاريعها ومنحتهم صك الحرية لكن الحرية الشخصية الممسوخة، لا حرية البلاد السياسية والاجتماعية.

ويا ليت أولئك العلماء والمصلحين يثبتون في الإصلاح وقمع الفساد ويضحون لأجله عشر ما يبديه الأشرار في الإفساد من الأضرار والعناد واللجاج، وما يبذلونه فيه من الضحايا الغالية من الأموال والأنفس.

ويا لله للعجب أيكون هؤلاء في باطلهم أشد ثباتا وجرأة من أولئك في حقهم؟ والله سبحانه يقول: “إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم” محمد/7

ويقول: “ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون” النساء /104

ويقول: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” آل عمران /139

خامسا: الوسط فإن للوسط تأثيرا على النفس فقد يجدي الإنسان عندما ينتقل إلى وسط جديد بتسرب نفسيته في نفسه، حسنة كانت أو قبيحة، إلا إذا كان على يقظة وحذر واتخاذ الوقاية اللازمة من سريان جراثيمه إليه، والغالب على الأوساط الإسلاميةـ كما قلناـ التهاون بالعمل بأوامر الدين، والأمراض تتلاقح بعضها ببعض فإننا نرى كثيرا من الناس في وسط ينغمسون في حمأة الفجور والخمور ويتهاونون بواجبات الصلاة وغيرها، بعدما كانوا في وسط آخر ذوي زهد وورع وعفاف وتقوى، وقد يعودون إلى هذه الخلال الحميدة عندما يعودون إلى الوسط الأول وهذا ناتج عن ضعف الإيمان، وعدم تأثر النفس به تأثرها بالوسط الذي انتقلت إليه، وقد بلغ الغلو في هذا بالبعض إلى أن يقولوا (إذا خرجت من وسطك قاصدا جمع المال فادفن وصيتك تحت جدارك) كان الله الرقيب في وسط دون آخر.

تلك هي الأسباب المزهدة للناس في العمل، فالواجب على المصلحين إزالتها، وحمل الناس بكل قوة على العمل والإخلاص فيه، حتى تنضج ثمار العلوم لديهم ويبسم لهم ثغر الدين ولو عبس في وجوههم المارقون، ويحفظهم الكريم سبحانه بجلاله ورضوانه ولو سخط عليهم الملحدون.

مقال من جريدة وادي ميزاب بقلم الشيخ إبراهيم أبو اليقظان، ع: 12، يوم 17 ديسمبر 1926م

المصدر: موقع الشيخ أبي اليقظان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى