يجب الاعتماد على المؤسسات لا على الأشخاص

لأجل حياة المشاريع العمومية واستمرارها ودوام سيرها باطراد في طريق الفلاح والنجاح ولأجل صيانتها من التحوير والتغير يجب الاعتماد فيها على النظامات والقواعد لا على الأعيان والأشخاص، فإذا أراد قوم إنشاء مشروع عمومي وأرادوا حقيقة دوام حياته وسلامته من آفات التدهور والانقراض فليعتمدوا على وضع خطة ونظام له قار، ولا يهملوا ذلك فيقتصروا على مجرد إسناده لبعض ذوي الكفاءات والشخصيات البارزة، فإن النظامات القارة لا تتبدل ولا تتغير فهي على الدوام ثابتة كما هي، والمشروع المؤسس على مقتضاها في حصن حصين من التبديل والتغيير والزوال، إذ لا يعوق سيره إلى الأمام شيء يقضى بعرقلته وتعطيله مادام مسيرا على ما تقتضيه تلك النظامات وكان إسناد مصالح المشروع إلى الكفاءة و انتزاعها من غيرهم على حسب ما تتطلبه تلك القواعد وكان تسييره على حسب ما تقتضيه تلك النظامات لا على حسب العواطف والأهواء فمن أين يتسرب إليه ضرر يعوقه أو خلل يعرقله؟
نعم إذا هم أهملوا ذلك واعتمدوا في حياته على وجود رجال ذوي خبرة ودراية على رأس إدارته فإنه لا يلبث أن يتزعزع ركنه ويتدهور بنيانه لوضعه على هياكل الأشخاص، وهذه معرضة على الدوام للتبديل والتغيير بالمرض الحسي أو المعنوي، والموت الجنسي أو النفسي، وإنما بقاؤه ببقائهم وذهابه بذهابهم، إذ لا ضمانة هنالك تحفظ وجوده وحياته بعد انقراضهم وهل يسوغ عقلا أن يبقى البناء صحيحا وأساسه مهدوم؟
أجل في إنشائه على منهاج قار وتسييره عليه ضمانة تامة على حفظه وحمايته من كل الطوارق، فإذا ما حاد بعض مسيريه به عن ذلك المنهاج وجب بمقتضاه تعويضهم ممن فيه اللياقة للسير به في منهاجه وهكذا على الدوام.
هذه قاعدة كلية انتزعها علماء الاجتماع من كثير من المشاريع العمومية التي هي في ذمة التاريخ فإذا استعرضنا أمامنا نماذج منها دامت واستمرت حتى أثمرت، وأخرى ذبلت أوراقها وذويت أغصانها، بلا شك نجد أن السبب في بقاء الأولى هو غرسها في أرض قارة موطدة بأوتاد من القواعد مسيجة بسياج من النظام، والسبب في ذهاب الثانية إنما هو غرسها في أرض مترجرجة موضوعة على رؤوس أشخاص لا ضمانة لدوام حملهم لها إلا بمقدار ما تقتضيه الصدفة والاتفاق، وهذه عقيمة قلما تلد الأبطال والعبقريين اللهم إلا بعد خراب البصرة، وبالرغم من كل ذلك فإنها تعتمد في المشاريع على هياكل الأشخاص ويتكلون في حياتها ودوامها على وجود زيد أو عمرو وهذا لا يلبث أن تصيبه نكبة فيعجز عن القيام بمهمته فيتدهور بسببه المشروع وينهار، وقد أخفقنا في كثير من مشاريعنا قديما وحديثا لهذا السبب عينه، ولا نزال كذلك مادمنا نعتمد على الأشخاص لا على المؤسسات ولو أننا نعتمد فيها على القواعد وتحكم في تسييرها نظاماتها التي نضعها لها لا عواطفنا وخواطر أشخاصنا فهل تموت قبل الولادة وتصاب بالعقم يوما ما؟ أو لا تدوم وتستمر ما دامت تلك النظامات.
نعم قد يعرض لها عائق من الخارج يقضي بتعطيل سيرها أو بإبادتها ولكن ليس من العسير على المسيرين له حسب تلك النظم تمهيده وتذليله كما نرى في كثير من المشاريع الكبرى المرتكزة على النظام لا على الأشخاص، على أن هذا نادر جدا في جانب ما يضمحل ويزول بسبب الهمجية والفوضى الداخلية التي تنشأ بطبيعة الحال عن عدم ارتكاز المشروع على القواعد والنظامات.
وقد حاد غالب المسلمين عن العمل بهذه القاعدة حسن ظنهم بعواقب الدهر وقصور نظرهم عما سيلده الغد وتقديسهم للأشخاص إلى درجة العصمة وجعلهم أياهم في مأمن من الخطأ والغلط والمرض والموت ووهمهم أن في تقييد المسيرين بالقواعد والنظامات ما يقلل ثقتهم و يلصق بأعراضهم و صمات مختلفة.
كما أن كثيرا من العاملين لا يرتضون أن يتقيدوا بشيء من ذلك و ليس هذا بسديد فليس معنى تقييد المسيرين بذلك كما يظنون ولكن معناه تأسيس حماية واتخاذ ضمانة للمشروع تقيه عوادي الدهر وحوادث الزمان بصرف النظر عن مقام زيد ومرتبة عمرو، وقد يتسرب إلى كثير من الأوهام لما ذكرنا أن فساد القائمين بمشروع ما موجب لفساد المشروع، قاض بهدم بنيانه ولو كان هو عين السعادة والحياة كما يتوهم بعض أغرار المسلمين بالقطر الجزائري، إن فساد كثير من قضاته موجب لنزع القضاء بتاتا من أيدي المسلمين ووضعه في يد غيرهم والغير أدرى بمصالحهم منهم وأرحم منهم لهم فيما يظنون وهم بهذا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأنهم يقدمون إلى أمتهم خدمات جليلة يستحقون منها شكرهم عليها ولم يتفطنوا أن القضاء شيء والقضاة شيء آخر، وأن مثار الفساد ومنبع الجور إنما هو ناشئ عن عدم كفاءة القضاة، لا من أصل القضاء الإسلامي الذي هو آخر أثر بقي في أيدي المسلمين من معالم الإسلام.
وإنما حملهم على ذلك ظنهم أن لا عبرة بالمؤسسات، وإنما العبرة بالأشخاص، والأشخاص كما يقولون غير أكفاء فلو كان لهم شعاع من نور البصيرة لطلبوا بكل إلحاح إعداد القضاة الأكفاء، وفتح أبواب المحاكم لهم وتضييق الخناق على المتطفلين على منصات الأحكام وإغلاق الأبواب دونهم، فلو كان لهم بصيص من التوفيق لاحتجوا قديما ضد تأخير الأكفاء وإقصائهم وتقديم الجهلة وتقريبهم، كي لا يكونوا سوادا في وجه القضاء الإسلامي وحجة في أيدي أخصام الإسلام، على أن أحكامه لا تلائم روح هذا العصر الحاضر فتصبح الأمة أمام أمر واقع كما هي الآن تستغيث ولا مغيث وتسترحم ولا راحم، وتستصرخ ولا مجيب، فلو كان لهم ذرة من الغيرة الإسلامية لملؤوا الدنيا صراخا وعويلا واحتجاجا مع الأمة على انتزاع آخر حجر من حصن الإسلام، لا أن يكونوا معولا في أيدي الهادمين لها.
وإذا فروا من قضاة المسلمين لجهلهم وجورهم فنزعوا قضاء الإسلام من يد الأمة الإسلامية ووضعوه في يد غيرها، ـ و هي طبعا غريبة عن الإسلام وعن تقاليد المسلمين وعوائدهم ـ فهل يرون هذه نقية نزيهة مما وصموا به أخرى؟ وهل يرجون من هذه من العدل والمساواة ما فقدوه من تلك؟ وإذا ما أيسوا من أن تقطر من بنان تلك قطرة من الرحمة فهل أيقنوا بفيضان منبع الرحمة والشفقة من بنان هذه؟ ليس اندهاشنا واستغرابنا مما يكيده أخصام الإسلام من المكائد المبيدة له، فان لهؤلاء مصالح وغايات يعملون لتحقيقها ويسيرون إلى مثلها الأعلى بأساليب ونظامات بكل ما أوتوه من القوة والمهارة فلا عتب عليهم ولا ملام، ولهم عذرهم في ذلك إذ لم يعملوا في نظرهم إلا صالحا ولم يقصدوا إلا تأييدا لنفوذهم وتوطيدا لقدمهم وخدمة لأمتهم فيما يظنون وهذه نتيجة طبيعية نحو الإسلام وإن ذروا من البخور أحيانا ما ينوم النفوس ويسكن الأعصاب، ولكن اندهشنا واستغربنا من بعض الذين يدعون أنهم أبناء الإسلام وهم في الحقيقة أدعياء فيه، لا في العير ولا في النفير، فلقد أخذتنا الحيرة من هؤلاء الذين يصفعون وجوههم بأيديهم ويغمدون خناجرهم في صدورهم، ويرون عزتهم في ذلهم، وسعادتهم في بؤسهم وحياتهم في موتهم، وهم فيما يزعمون عقلاء في حالة الجواز.
وليت شعري كيف يجنون لأمتهم ودينهم الحنيف تلك الجناية الفضيعة وهما لم يجنيا لهم شيئا وإذا لم يعجبهم منهما شيء وأرادوا الانسلاخ منهما فلينسلخوا وكفى، وليبرؤوا منهما فحسب، أما أن يحاولوا نزع أعز شيء بالإسلام وأقدس مأثرة بيد الأمة باسم نفع الأمة وخدمتها فليس من العقل ولا من الحصافة في شيء.
وإذا كانت لهم بعض حزازات نحو بعض الموظفين فهم وشأنهم معهم فما بال مصلحة الأمة وما جرمها؟ وهل من الإنصاف أن يضحوا بتلك المصلحة الكبرى العامة انتقاما لأغراضهم الذاتية من أصحابهم؟ أين الإسلام يا قوم؟ أين الغيرة؟ ومالي أرى حرارتكم الدينية والوطنية قد انخفضت إلى ما تحت الصفر بخمسين درجة؟ أو تظنون أنكم ـ وأنتم في الإقليم المعتدل ـ تعيشون في جو بارد بخمسين درجة تحت الصفر، فانتبهوا من غفلتكم وتوبوا إلى رشدكم، وتداركوا حالتكم التي تعالج أخطار النزع قبل أن تلفظ النفس الأخير.
مقال من جريدة وادي ميزاب بقلم الشيخ إبراهيم أبو اليقظان، ع: 31، يوم 13 ماي 1927م
المصدر: موقع الشيخ أبي اليقظان
				
					


