صحافة أبي اليقظانواحة المعرفة

النفوس الرخوة

في كل شعب وفي كل أمة يوجد أصحاب المبادئ الصماء الذين تتزحزح الجبال ولا يتزحزحون هم عن مبادئهم، وسواء أكانت هي في الخير أم في الشر، في الإصلاح أم في الإفساد. وعلى هؤلاء دون غيرهم تدور قطب رحى الحروب والمعارك السياسية والدينية وفي أنحاء العالم، وهم قلب الأمم ودماغها فمتى كان القلب صحيحا والدماغ سالما سيقت الأمة إلى حيث العز والمجد والـشرف، ومتى كان القلب مريضا والدماغ مسوسا سيقت إلى هوة الهلكة والخسار.

وبين هؤلاء يوجد جمهور كبير ذوي قلوب ضعيفة كقلوب الطير ونفوس رخوة كالعجين، فلا ثبات لهم ولا مبدأ كالماء لا لون له ولكنه يتلون بلون الإناء، فمتى جعل في إناء أخضر رئي أخضر، ومتى جعل في إناء أزرق رئي أزرق وهكذا.

وكذلك أولئك لا خطة لهـم يترسمونها ولا مطمح لهم عاما يسيرون إليه، ولكنهم أبناء وقتهم مرة مع زيد وأخرى مـع عمرو وتارة مع بكر وطورا مع خالد إلخ. يصبحون مع زيد ولمجرد ما تحيق حوله بعض الأخطار ينحازون في الزوال لجانب عمرو، وإن لاحت لهم سحابة من الخطر تحوم فوقه عشية انفضوا من حوله وتجمهروا في المساء بجانب بكر وهكذا، لا يسكن لهم بال ولا يقر لهم قرار، فرائصهم ترتعد وأعصابهم تضطرب وقلوبهم ترتجف ونفوسهم تذوب شعاعا لمجرد ما يلوح لهم شبح من الخطر، يحلفون لك بكل محرجة من الإيمان أنهم لا يزالون معك في السراء والضراء فيبرون يمينهم مادامت السراء ممدودة الرواق، فإذا جد الجد ورفع الستار عن الدور الأول من رواية الخطر، افرنقعوا عنك وواجهوك من بعيد وضحكوا من قلة عقلك ومخاطرتك ومجالدتك، وإذا ما رأوك حزت النصر وظفرت بالمطلوب رجعوا إليك واحدا بعد واحد على قدر هروبهم منك، وهم معك مادامت راية النصر تخفق فوق رأسك، وإذا تقلص ظلها ونكست تراجعوا عنك وأصبحوا في جانب خصمك، وهكذا دأبهم وديدنهم ما داموا في قيد الحياة.

والغالب على هؤلاء كشف الأسرار ونقل الأخبار من هنا وهناك استرضاء للجميع وخوفا من الجميع، وشدة الشغف بالسكون والركون إلى السلم ولو مع إقرار الباطل وخذلان الحق، ولا يهمهم انتصر الباطل أم خذل الحق، ولكن يهمهم السكون والسلم فقط على أي حال كان. ومتى رأوا الحق والباطل يتصارعان ألبسوا صراعهما بلباس الفتنة والفساد والتشويش وكالوه بكيل واحد ووجهوا سهام اللوم والتعنيف إليهما معا، لأنهم يرون الواجب هو السكون والركون، ومتى ثارت زوبعة الخصام بينهما فلا خير في الجميع ولا يميزون بين الحق والباطل، فينصروا الأول ويجهزوا على الثاني ضرورة أنهم يرون السكون والركود قبل كل شيء، ويرون وجوب الولاء والصفاء بينهما. ونحن لم ندر ولم نسمع في تاريخ العالم قديمه وحديثه متى اجتمع الحق والباطل في غمد واحد، ومتى انعقد الصلح بينهما في الدنيا وإنما تلك أمنية منهم سداها ضعف القلب ولحمتها رخاوة النفس.

إن هؤلاء غالبا ما يكونون في مؤخرة الجيوش عند الإقدام، وفي مقدمتهم عند الإحجام وفي صفوفهم تتفتح الثغرات للعدو المهاجم، وعلى رؤوسهم ينهار بنيان الحصون، وهم عيون كل قائد وأذن كل جيش، ومن المستحيل أن ينعقد بهؤلاء أمر وأن يؤسس بهم مشروع، إذ الأمور تنعقد بالكتل الصلبة المتماسكة الأجزاء لا بالذرات الرخوة المتناثرة، والمشاريع الكبرى إنما تؤسس على الصخور العظيمة الثابتة لا على الأحجار الهشة القلقة والحجر المتقلب لا يثبت عليه البنيان.

إن أمثال هؤلاء لا يعول عليهم في تأسيس النهضات، ولا يعتمد عليهم في شيء يستوجب الجلد والمثابرة والثبات، ولا ينبغي للعاقل أن يفرح لإقبالهم أو يحزن لإدبارهم أو أن يطرب لهتافهم أو يتذمر من صفيرهم، فهم في جميع الأحوال سواء ماداموا في حال الضعف القلبي والوهن النفسي لا يمكن التعويل عليهم في شيء معها.

نعم يمكن للماهر الحاذق أن يستخدمهم ويستفيد منهم في مصالح عدة، ولكن لا يمكن أن يبني عليهم قصور آماله أو يشيد بهم حصون قوته، وإنما يمكنه أن يبلغ ذلك بالرجال الصابرين الثابتين أصحاب المبادئ القارة والكلمة الواحدة. فإن انتشر دين فبهؤلاء وإن نبت مذهب فبهؤلاء وإن اعتزت أمة فبهؤلاء وإن حرر شعب فبهؤلاء. فمن أراد تكوين أمة أو إحياء شعب  فليبدأ بإعداد العدة وهي هؤلاء. أما إذا غفل عن هذا وأسس عمله على كواهل أولئك الضعفاء فقد بناه على أساس من الرماد أو كتلة من الزبد، فلمجرد ما تهب ريح عاصفة أو ترسل الشمس أشعتها المحرقة تتناثر ذرات الرماد في الفضاء وتذوب كتلة الزبد في الأرض، فينهار بنيانه ويصير عاليه سافله.

فمن كان يؤلمه أن يحشر بين هؤلاء الواهنين الضعفاء وتؤلمه لذعة الامتهان والازدراء فما عليه إلا أن يتجلد ويصبر قليلا على لذعات الأهوال والخطوب كغيره، و يتزين بزي الصابرين الثابتين فلا يلبث قليلا حتى يطرز صدره بنيشان الجلد والثبات ويصبح في الصفوف الأمامية بين الرجال الكاملين.

مقال من جريدة وادي ميزاب بقلم الشيخ إبراهيم أبو اليقظان، ع: 108، يوم 09 نوفمبر 1928م

المصدر: موقع الشيخ أبي اليقظان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى