الجهاد الروحي ومعنى التحرر

أن تكون صائمًا يعني أن تكون مدركًا لعمق التحرر. يمر علينا رمضان كل سنة، مدرسة إيمانية روحانية وجدانية عظيمة. يختلف الناس في استغلالها وتصوُّر دلالتها ومعناها، وتختلف بالتبع ممارساتهم اليومية بين مقتصد في الخير وسابق للخيرات. في كل رمضان نجدد إيماننا ونراجع علاقتنا الروحية بالله، نصلح شبكة علاقاتنا الاجتماعية ونصل رحمنا، نستدرك غيابنا عن القرآن، وندرك معنى المساعدة وعمق الصدقة والعطاء. نراجع فيه معنى وجودنا في الوجود ورسالتنا في الحياة وعلاقتنا بالطبيعة والكون.
من معاني رمضان الروحية والإيمانية والحضارية، معنى قد يكون غائبًا عن كثير من الناس، أو قد يغفلون عنه بشكل أو بآخر، وهو معنى عميق في الحياة كونه لا يرتبط بالعبادة فقط ولكن أكثر من ذلك من دلالة حضارية محورية جدًا: وهو معنى التحرر وفلسفة التحرر. إنه جهاد روحي عظيم مفاده أن الإنسان في رمضان يمتنع امتناعًا تامًا عن المعاصي والآثام والذنوب التي تهدم صومه، ليس فقط المحرمات ولكن يمتنع أيضًا عن الأكل والشرب بالرغم من كونها من المباحات. وهنا يكمن التحرر.
لأبين بمثال: التقيت بصبي من أفراد العائلة وسألته إن كان صائمًا في يومه أم لا؟ فأجاب أنه كان صائمًا في البداية ولكن أهديت إليه علبة حلوى لذيذة ومغرية، وقال إنه كسر صومه وأكلها فقط لأنه أعجب بها ونظرًا لأنه لم يصبر ولم يتحمل! يعني أن هذا الصبي لم يكتسب قدرة داخلية للمقاومة والتحرر والصبر حتى على ما أعجب كثيرًا به وطبعا هو من المباح. وهنا يكمل الجهاد الروحي.
إن استطاع الإنسان التحرر من المعاصي حفاظًا على صومه، وكذا إن استطاع التحرر عن مباحات طول النهار وخلال شهر كامل، فإنه بذلك يستطيع التحرر أيضًا -وقتما توفرت لديه الإرادة- من المعاصي الحضارية والتصرفات السلبية التي يقوم بها في حياته. فكما أنه يستطيع التحرر من الأكل، يمكنه التحرر من الإدمان الإلكتروني والعلاقة الوطيدة المستمرة بالشاشات التي تهتك بوقته وتهدد أو حتى يمكن أن تلغي فعالية الإنسان اليومية في الحياة فيما أوتي من وقت ضيق. يستطيع التحرر من المعاصي الإلكترونية في علاقاته ومنشوراته، يستطيع أن يتحرر من طوبيا العالم الرقمي وأن يعيش الحياة الفعلية بما تملك من تحديات وإنجازات واقعية ترجع الإنسان لحقيقته وعمقه وسلبياته وأخطائه.
أن يتحرر أحيانًا من الميول للراحة والبذخ والرفاهية والعبثية وكل ما يزيل همَّ الإنسان الحضاري وحرقته وأرقه من أجل رسالة إنسانية وحضارية واجتماعية. يستطيع كذلك التخلص من العنف اللفظي والجسدي والمعنوي، يستطيع التخلص من غريزة وشهوة التملك والاقتناء والاستهلاك والتي تعتبر من آفات هذا العصر الحضارية. يستطيع التخلص من الحقد والحسد وأن يطهر القلب ليصفو للعبادة ويخشع خلال الدعاء، يستطيع أن يتحرر من سلوكيات توسيخ البيئة والمحيط ورمي الأوساخ في الأماكن العامة.
طبعا كل ما أوردته من قبل من نماذج تندرج على سبيل المثال لا الحصر، ولو شئنا أن نحصر التحديات والإشكالات الحضارية لاستلزم منا جهدًا معتبرًا. ولكنها رسالة إلى كل من واتته فرصة إدراك رمضان. نسق حديثنا مرتبط بالإنسان مهما كان جنسه ولونه وجنسيته وفصيلته. نحتاج للتحرر اليوم أكثر من الأمس، من الكثير أو بعض ما تمليه الحضارة المادية والصناعية وعالم ما بعد الحداثة والعولمة والعلمنة من تحديات راهنة تمس الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر على مستوى عدة أصعدة من حياته، والانطلاقة من شهر رمضان ومن شعيرة الصوم.
الأستاذ: عبد الهادي الشيخ صالح
مدير ثانوية الرضوان -العطف-



