الشيخ محمد قراس في ذمة الله

ببالغ الحزن والأسى بلغنا نعي وفاة الشيخ قراس حاج محمد بن سليمان، وبهذه المناسبة الأليمة نتقدم بالتعازي الخالصة لأسرته ولمدينة بريان وكل معاشريه ومحبيه والجالية في فرنسا.
الفقيد كان نعم الأب المربي للأجيال، هاجر إلى فرنسا سنة 1984، وعاش واعظا مرشدا في المساجد، عرفه الجميع مسالما متواضعا سمحا، وعرف بالتضحيات الجبارة لصالح الجالية المسلمة هناك، وتميز بتكوينه العلمي اللغوي والديني.
اللهم ارحمه برحمتك الواسعة وألحقه بالصالحين في الجنة مع النبيئين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
إنا لله وإنا إليه راجعون

نبذة مختصرة عن المرحوم
هو الفاضل: محمَّد بن سليمان بن باسعيد ﭬـرَّاس، من عشيرة آل حلّ عينهم ببريان.
ولد في مدينة تيارت (تيهرت) يوم 23 ذو الحجة 1364ه، الموافق ليوم 29 نوفمبر 1945م، وفيها أخذ دراسته الأولى بالمدرسة الابتدائية الفرنسية، فتدخَّل السيِّد الفاضل، المجاهد: الحاج صالح بليدي (مقيم مدينة الأغواط) فنقله إلى مدينة القرارة ليواصل دراسته في مدرسة الحياة الابتدائية، لإنقاذه من مخالب المدرسة الاستعمارية الفرنسية، وتنشئته على نهج أهل الحق والاستقامة.
سكن خلال دراسته الابتدائية عند أخته المقيمة هناك، زوجة السيِّد الحاج داود خيَّاط، ثمَّ انتقل للإقامة في دار البعثات العلمية المزابية عند التحاقه بمعهد الحياة.
فواصل دراسته المتوسطة والثانوية في معهد الحياة، على يد مشايخ وأساتذة أفاضل، منهم: الشيخ إبراهيم بن عمر بيُّوض، الشيخ سعيد بن بالحاج شريفي (الشيخ عدُّون)، الشيخ الناصر بن محمَّد مرموري. … وغيرهم.
كانت مبادرة الرجل الفاضل “الحاج صالح بليدي” رحمه الله، سببا أساسيا لرسم المستقبل الناصح والناصع للأستاذ محمَّد ﭬـراس، فتشبَّع في القرارة بمدرسة ومعهد الحياة بالعلوم العربية اللغويَّة، وعلوم الفقه والتفسير وأصول الدين، إلى جانب الحياة العملية الجماعية الاجتماعية التعاونية التشاركية مع زملائه وأترابه وأصدقائه، في جمعيات ثقافية تربوية تدريبية تنمِّي في الطالب ملَــكات الابداع والإلقاء الخطابي، وفنون الكتابة الأدبية، وتفتِّــق مواهبه الكامنة.
كان من الطلبة المتميِّزين في مختلف الأنشطة الثقافية والمناسبات الاجتماعية، يشارك بالإنشاد في المجموعة الصوتية، والكتابة الأدبية الراقية، والخطابة في الجمعيات الثقافية، والنشاط الحماسي الوطني ضمن الأفواج الكشفية الوطنية.
وفي سنة 1965م، تخرَّج من معهد الحياة فتوجَّه إلى مدينة بريان، فعيَّنته جمعية الفتح أستاذا بالمدرسة مدرِّسا لتلاميذ المستوى الابتدائي، يلقِّن لهم القرآن الكريم، ويعلِّمهم اللغة العربية وفنونها، والفقه الإسلامي ممَّا يعلم من الدين بالضرورة، وما لا يسع جهله.
ولم تكن جهوده محصورة في مجال التربية والتعليم فحسب، بل كان شعلةً من النشاط رفقة زملائه الأساتذة في المدرسة، يتصدَّرون مجموعات الانشاد الديني والوطني في الأفراح والمناسبات الدينية والوطنية، والنشاط الكشفيِّ بالأناشيد الوطنية والمسرحيات التربوية الهادفة، ورافقه في ذلك الأساتذة عمر بن عطية مغازي، بابهون بن سليمان كاسي وصالح، علي بن إبراهيم لعساكر، إبراهيم بن أحمد أوراغ.. وغيرهم.
وشاء الله تعالى أن يكون من بين الضحايا الكُــثر لممارسات الحزب الواح الحاكم آنذاك، حيث استدعي للتحقيق في قضايا لا ناقة له فيها ولا جمل، فعُذِّب تعذيبا أنهك جسمه النحيل، وأوغر فيه جروحا بدنية وكِلاما نفسية سبَّبت له أمراضا عديدة، فرضت عليه التردُّد على الأطباء كلَّ مرَّة، والسفر إلى الجزائر العاصمة طلبا للعلاج، ممَّا جعله يتخلَّف مضطرًّا عن وظيفته التعليمية في المدرسة أكثر من مرّضة، فاضطرَّت إدارة المدرسة مراعاة لمصلحة التلاميذ إلى الاستغناء عنه معلِّما فيه، فترك المدرسة والتعليم سنة 1974/1975م، بعد عشر سنوات من العطاء بصدق وإخلاص.
انتقل إلى مسقط رأسه تيارت (تيهرت) فعمل موظَّفا في الشركة الوطنية للصناعات النسيجية (Sonitex)، إلى سنة 1984م؛ وخلال هذه السنوات العشر التي قضاها في تيارت، لم يعش لنفسه بين بيته ووظيفته، بل كان من عمَّار المسجد وروَّاد مجالس الذكر فيه، ومن المساهمين في نشاط المسجد ومدرسة أفلح القرآنية، بين الوعظ والإرشاد على منبر محرابه، والخطابة والإنشاد في حلقات ساحاته، ومرافقا لتلاميذ المدرسة وتوجيههم.
ولكنَّ صحَّته لـم تسعفه لواصل عمله ونشاطه النضالي الاجتماعي والثقافي، فاضطرَّ للسفر إلى فرنسا للعلاج سنة 1984م بباريس، فحطَّ رحاله في مركز الاباضية المزابيين بباريس، على نية العلاج والعودة إلى الوطن؛ ولـمَّا طال به المقام، تمدَّدت مراحل علاجه، لـم يستطع الهدوء والركون إلى الراحة، بل دفعته حيويَّته ونشاطه كعادته وطبعه إلى المشاركة الفعَّالة المتميِّزة في أنشطة المركز والانخراط في برامجه الاجتماعية والثقافية التي كان يقوم بها لخدمة إخوانه المزابيين المقيمين بفرنسا.
نال بذلك رضى وإعجاب المسؤولين على المركز والمشرفين عليه، واستحسنوا أسلوبه وخطابه وتفكيره، وثمَّنوا بضاعته العلمية والثقافية والفكرية، خاصَّة في الشريعة الإسلامية والثقافة العربية، وتعلقه بمنهج أهل الحق والاستقامة المرجعية الأولى والأساسية للمزابيين، إلى جانب تمكُّنه في اللغة الفرنسية، واتساع ثقافته العربية والفرنسية، فكلُّ هذا جعل القائمين على المركز يثقون فيه، ويقدِّمونه للعديد من المهامِّ.
كان نعم الرجل المناسب، للمكان المناسب، ونعم المفتاح للقلوب والنفوس، يجمعها ويوحِّدها، ويشحنها بالمعاملة الطيِّبة، والأخلاق الكريمة، والطويَّة الصافية، والتواضع الجميل، وجمع في تعاملاته بين العلم والتعليم، والتربية والأدب والإصلاح، والوعظ والإرشاد.
وتصدَّى لحمل وإنجاز كلِّ ما يُسند إليه من أعمال ومهام، بكلِّ صدق وإخلاص وتفانٍ، فأحسن القيادة في المركز، كما أحسن تمثيل المركز المزابي الاباضي الجزائري، والأمَّة المزابية بصفة خاصَّة، أحسن تمثيل لدى المراكز والجمعيات الإسلامية الوسطية، وأمام السلطات الفرنسية الحكومية.
تمسَّك به المزابيون قائدا لـهم في فرنسا، وممثِّلا للأمَّة المزابية في أوروبا خصوصا، فكان نعم السفير والممثِّل لوطنه وأمَّته وبني جلدته، والابن البار الوفيِّ لمشايخه وأساتذته الذين تربَّى ونشأ على أيدهم، وغرسوا فيه قيم ومبادئ الإسلام والمجتمع المزابي.
وقد شهد له الكثير من زملائه والعاملين رفقته في الميدان الاجتماعي والعلمي داخل الوطن وخارجه، بالصلاح والاستقامة، وسعة العلم، وقوَّة الحجَّة والبيان، والتفقُّه في الدين، والوقوف إلى جانب الحق مهما كلَّفه الأمر، وحمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخاف في ذلك لومة لائم.
ومن هذه الشهادات الصادقة، نسجِّل هنا على سبيل المثال، شهادة الأستاذ: إلياس بن موسى بوراس، إذ يقول في مقال عن الفقيد، نشره في صفحته على الفيسبوك: -“كان (الشيخ محمَّد ﭬـرَّاس) يقول كلمة الحقَّ ويصدح بها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يخشى في الله لومة لائم، وأنا أشهد على ذلك.”-.
ولم يمنعه من قول الحق، ولا من العمل في سبيل الحقِّ، إلاَّ الأجل المحتوم، الذي أتاه يوم الخميس 09 جمادى الأولى 1442ه، الموافق ليوم 24 ديسمبر 2020م، بعد عملية جراحية بإحدى مستشفيات باريس.
لكلِّ هذا الجهاد والكفاح الذي زاد عن ستَّة عقود من عمره، جعله خالدا في قلوب الناس، وفي سجلاَّت التاريخ المجيد للأمَّة. فهو بالفعل رجل لا يموت.
رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله وأمَّته الصبر والسلوان، وقيَّض للوطن ومزاب وباريس من يخلفه في جهاده ونضاله وصلاحه، وما ذلك على الله بعزيز.
المصادر:
- الطالب باحمد السايح بن صالح
- إبراهيم بن علي تمزغين
- صفحة الأستاذ إلياس بن موسى بوراس
مصدر الترجمة مدونة الأستاذ الفاضل يوسف الواهج