لا يمكن للإنسان أن يكون مسلمًا ويبقى متخلّفا!

إن ما نعيشه اليوم من انفصام بين الفكر والفعل، وصدام بين العقل والقلب، وتنافر بين الدين والدنيا، وبين الدنيا والعقبى؛ إنما مرده إلى زللنا عن الثنائية الفطرية: “المادة ” و”الروح”، لذلك فإنّ كتاب الباحث الجزائري طه كوزي “القرآن نسخة من الإنسان… لا يمكن للإنسان أن يكون مسلما ويبقى متخلّفا”، بحث عن شيفرة الجواب وكلمة السر التي تحفظ للإنسان إنسانيته، وتهبه التوازن وتمنعه من التطرف والانحراف. كتاب هام يطرح الأسئلة ويثير الجدل.
وفي مقدمة العمل الفكري الصادر عن دار الفكر السوريّة، قال المؤلف” حولي أقران وأتراب لا أحصي لهم عَدّا: مـِمَّنْ قضوْا حياتهم بين تطرُّفين، واستفْرغوا زهرة عمرهم بين حدَّين متناقضين؛ لا يعرفون بينهما توسُّطا وتلطُّفا، فأحدهم قضى شطْرا من عمره متحرِّرًا من كل قيد، منسلخا من كل مبدأ أخلاقي، أغوته مصطلحات برّاقة، وكلمات بوّاقة من جنس: الحداثة، وموت التاريخ، والظلامية الدينية، وواجب التنوير… فمقت دينه، وهجر رَبْعه، وقدَّ بيده قميصه”.
وتابع “هذا الشاب الصديق، وبمجرد أن فتنه موت مُفاجئ لأحد أحبته وخلانه؛ فَفقَد توازنه، ولم يجد عند: نيتشه، وفرويد، وداوكينز… أجوبة معرفية لما عصف به من اضطراب واكتئاب، وقلق…؛ فانْسحب من الحياة وقضى شطْر حياته الثاني منْزويا، منعزلا، منكفئا؛ ينازع الملائكة مقامها؛ فأنكر ما أحل الله له من طيب الحياة ورغيد العيش”.
والعجيب في الأمر أن زميلي هذا، والكلام للمؤلف، أنّه لما اعتنق الحداثة منهجا ورؤية؛ كان يرى فينا نحن أقرانه وأترابه: رجعيةً، وتخلُّفا؛ فكان يدعونا إلى ما يتوهَّمه: استنارة وحرية… أما حين انقلب منزويا متنسكا كان يجد فينا، نحن وجميع مَنْ حوله: تفلُّتا واتِّباعا للهوى وحبًّا للدنيا؛ فقام يدعونا إلى ما يفْترضه نورانية وتطهُّرا.
لقد فُتن إنسان هذا العصر بالتطرف في كل شيء، وسُلب معنى الاستقامة، والتوازن، والتناغم في أفكاره ومنطق أفعاله، في غناه وفقره، وفي حله ترحاله، فوَرَمُ التطرف؛ يُمْنةً تارة ويُسرةً تارة أخرى: أخطر على البشرية أشد بها فتكا من كل مرض عضال وداء خبيث.
إن هذا الكتاب، الذي توزعه في الجزائر مكتبات ناجي ميغا بوكستور، بحث عن شفرة الجواب وكلمة السر التي تحفظ للإنسان إنسانيته، وتهبه التوازن وتمنعه من التطرف والانحراف.
ذلك أن الفكرة الإسلامية ليست “طوباوية مثالية” تعِد الإنسان “بالمدينة الفاضلة”، و”السعادة السينمائية”، ولا هي “دراميةٌ كارثية” قائمة على “المعاناة الحتمية” و”السادية”، إنها فكرة تعادل الإنسان في جنْبَيه المادي والروحي()؛ تمنعه من أن يسيخ في أوحال البهيمية، وتدفعه إلى مقامات التجاوُز والقرب، تفصح له بأنه ليس كائنا حيوانيا ولا ملَكا نورانيا بل إنسان كامل الإنسانية لتصل به إلى مقام “المكابدة” لا “المعاناة الحتمية” ولا “السعادة الفجة”، بحسب الكاتب.
حين يقف الإنسان على عوده؛ تشخص عيناه في السماء، ورِجْلاه مغرُوزتان في الأرض: لهي أبلغ صورة تصِف ثنائية الإنسان التي يتردّد بين حدَّيها: طول الأمل، وقلة الحيلة، ساعة التعبُّد ولحظة الغريزة، لذة المعصية المنتهية وتأنيب الضمير، قِصَر العمر وخلودُ الأثر، نيّة الكسب وروح الصدقة…؛ لذا فإن حركية الإنسان تدفعها روح الوعد إن ضجر وقنِط، كما أن الوعيد يعود بالإنسان إلى رشده إن هو أرخى العنان لأهوائه ونزواته، وفق توصيف المؤلف.
يجيب المرحوم علي عزت بيجوفيتش عن الثنائيات المختزلة التي جعلت الإسلام يتفتت بين يدي بشر جعلوه عِضين؛ بين “شرق” متنسك متصوّف ميّال إلى “العالم الجواني” تزكيةً وتهذيبا، و”غرْب” فرّ إلى “العالم البراني”، يبحث عن تعويض فراغه الكوني الداخلي بكومة من الأشياء، والاختراعات، والتكنولوجيات، فغدا الشرق بذلك نسخة مسيحية (الرقائق والأشواق) للإسلام، والغرب نسخة يهودية (الآن وهنا) له.
إن ما نعيشه اليوم من انفصام بين الفكر والفعل، وصدام بين العقل والقلب، وتنافر بين الدين الدنيا، وبين الدنيا والعقبى؛ إنما مرده إلى زللنا في الإجابة عن الثنائية الفطرية القاعدية: “المادة” و”الروح”.
إن “نموذج الرشد” الذي يقدمه طه كوزي يتتلمذ بين يدي الأستاذ “بيجوفيتش” ويستأنس بإجابته عن رقعة معرفية حضارية دقيقة ومفصلية في بُنية “البرادايم البديل”، ويكشف عن مساحة متشنجة في “منظومتنا الفكرية الإسلامية”، ويُنِيرُ رقعة مظلمة في الفكر الإنساني في التفاعل مع إنسانية الإنسانية التي رفعها البعض إلى مقام الملائكية جهلا، ومرّغها بعضٌ آخر في أوحال الحيوانية والبهيمية سفها وشهوانية.
تمثل المسيرة الفكرية للأستاذ منذ سن السادسة عشر() من العمر قطعة من المكابدة من أجل المعنى، والمصابرة في طريق البناء والتشييد، فجمع في سيرته ملامح “الشاب العالم”، و”الثائر المتبصّر”، و”الإعلامي المنصف”، و”الرئيس العادل”، و”المفكر المقاوم”، فاجتمع فيه ما تفرق عند خلق كثير من مقومات “المجاهد المجتهد”، على حد تعبير الكاتب.
حين تصدّى “الأستاذ بيجوفيتش” لمهمة بناء أول دولة، ذات صبغة إسلامية في العمق الأوربي، أدرك أن المسألة ليست متّصلة بتقعيد عدد من التشريعات، وصياغة القوانين، بل المسألة في جوهرها: إعادة قراءةٍ للفكرة الإسلامية في كلياتها، ورؤيتها الكونية؛ فألّف لذلك “الإسلام بين الشرق والغرب”؛ بنيّة نسج دستور جديد لهذه الدولة الفتية (البوسنة والهرسك) التي لن تحافظ على مكنوناتها الذاتية، ورؤيتها الكونية، وتفاعلاتها الإقليمية مع “الصرب” و”الكروات”، وبين “الشرق” و”الغرب”، بالقرارات السياسية، والمرسومات التنفيذية، وزيادة الأجور، وخفض الضرائب؛ بل من خلال رؤية فكرية متماسكة متوازنة.
نسج الأستاذ “بيجوفيتش” فكرة “التسليم لله” في زنزانته، وهو يطالع 50.000 صفحة؛ صاغ خلالها مفتاح شفْرة الاختزال والانفصام: بين “المسجد” و”المدرسة”، و”النبوءة” و”الثقافة”، و”الفكر” و”الفعل”، و”الدراما” و”الطوبيا”، و”النية” و”العمل”، و”الزواج” و”الرهبنة”، و”الآلة” و”العبادة”، و”أداء حركات الصلاة” و”روح الخشوع”.
لعل هذه الطريق الفكرية لا تزال طويلة وعْرة المسالك، وكل الأمل أن يمثل هذا القمطر بذرة في هذا السبيل، وتشجيعا لكل عقل متبصِّر، وباحث مُجد أن ينحو هذا النحو؛ بصدر منشرح، وعقل منفتح، وأفق منفرج، مثلما يؤكد كوزي في إنتاجه المذكور.
المصدر: الشروق اليومي