من وحي القلمواحة المعرفة

خبر عاجل: “جون ميشال في ذمة الله”

توفّي قبل أيام جون ميشال رحمه الله وهو لم يتجاوز الأربعين من العمُر؛ قضى حياته مسيحيا كاثوليكيّا، أمّا عائلته فملتزمة مطلقا بتعاليم القديس “أوغسطين”، ملامحه: غربيّة تماما: متوسط القامة، أبيض البشرة تشوبها حُمرة جِرْمانية، هادئ في طبعه ومزاجه، ميّال إلى الصمت، والهدوء، والتأمّل… لا يستهويه المراء والجدال كنفر غير يسير من الخلق، هدوؤُه مؤشّر إلى أن في قلبه وعقله سؤاًلا يؤرّقه، وهمّا جُوانيا يحاصره ويخنِقُه…، كان “جون ميشال” موظفا في مؤسسة تجارية، يلتهم الوظيف نهاره وبعض ليله، قضى ربيع عُمره منهكا بين صفقة هنا وصفقة هنالك، وقد كانت “الأزمة المالية العالمية” قد أجهدتْ، قبل سنوات، فكره وجهده مثلما استنزفت اقتصاد بلاده ودولته…

في جوّ “العائلة الكاثوليكية”، وفي مشهد كَنَدي خالص؛ كان ثمة “فتى جزائري” يافع، في عنفوان الشباب والديناميكيّة، يُقاسم الأسرة جلسات السمَر والأُنس أمسية نهاية الأسبوع، ورويدا رويدا صار “أحمد” لُحمة في نسيج العائلة الكندية الصغيرة، وغدا فردا من أفرادها، كان “أحمد” شابّا مؤمنا حَيّيا؛ إذ لم يكن من ذلك السِنْخِ الذي يعرض دينه، وعِرضه، وإيمانه: بضاعةً مبتذلة في سوق الانسلاخ، والرذيلة، والعهر… بل كان محط جُهده وجِهاده أن يكون “هُوَ هُوَ” بإيمانه وتقْواه ويقينه؛ مهْما تغيّر الزمان وتبّدل المكان: هنالك في أزقة “القصبة” و”بور سعيد”، و”أحمد بوزرينة” أو غير بعيد هنا في أحياء “مونتريال” ومرتفعات “طورنتو”… لقد كان كل هـمـّــه أن يكون إسلاما ناطقا بحُسن الخلق والمعْشر، متحرّكا بأخلاق القرآن وهو يخوض معترك الحياة…

الفتى “أحمد” لم يحدّثهم يوما عن الإسلام ولا عن المسلمين، ولم يكن يرى داعيا إلى أن يمج الأسماع بطول الخطاب؛ فراهن على أن يكون القدوة والأسوة بطيب الجَنان، وسلامة اللسان، والخيرية في الأركان: بابتسامة صادقة، ونصح جميل، وخدمة مخلصة…

كان جون “ميشال” (صهر العائلة) يتأمّل شخص الفتى “أحمد” عن بُعد؛ حين يلتم الشمل نهاية الأسبوع، وكان يراقب الشابَّ الجزائري في حضوره وغيابه، لحظةَ صمته وهنيهاتِ حديثه، ولم يحدُث أنْ فاتَح “جون ميشال” أحمدَ عن الإسلام وأحكامه، إلا أنّه ذات مرة شاهده يصلي ركعات في زاوية من زوايا البيت الكَنَدي…، إلا أن التساؤل الذي كان يحيّر “جون ميشال”: هو ما الذي جعل “أحمد” أكثر سعادة مني بالرغم من أنه غريب في الديار وأنا المقيم بين الأهل والأقران؟

في ليلة من ليالي “مونتريال” المثلجة الباردة؛ خرج جون ميشال من المشفى بعد تشخيص طبي، متثاقل الخطى، تنفجر عيناه دمعا، ويعْتصر فؤاده حسرة؛ فقد أبلغه الطبيب المتخصص أنه يعاني من ورم خبيث في مرحلة متقدمة، لم يتحمل الصدمة، ولم يقو على احتمالها؛ إذ لم يكن قلبه وعقله مشحونا بإيمان ويقين يخوله الصبر على أهوال الحياة، وابتلاءات الزمان، ووخزات الأيام…

تسارع الزمن في ساعة “جون ميشال”، وعجّل المرضُ دقاتها، ودوران عقاربها، فتهالك بدنه، ونحفت ملامحه، وأُنهكت قواه… إلا أنه لا يزال يحمل في قلبه سرّا ليس يبوح به لأحد؛ إنه لم يعُد يجدُ في كاثوليكيته ما يجيبه عن سؤال المرض، ويقوّي عزائمه في مقاومة الداء… لم تعُد الكاثوليكية تجيبه عن أسئلة المرض، بعد أن أخفقت قبل أيام في إخراجه من أزمة المال الربوي القاتل…؟!

اطّرح “جون ميشال” فراش الموت بمستشفى بالعاصمة “مونتريال”، ولم يعُد بعدها يقوى على الحديث، ومُنِعت زيارته إلا لخاصّة الخاصة، وفي صباح باكر أقبل الطبيب على زوج “جون ميشال” مُخبِرا إياها أن حالته لم تعُد قابلة للتطبيب والتمريض، ولم يعُد المريض ينتظر من بُرءٍ إلا ساعة الرحيل… فاسّارعت الزوجة إلى الاتصال برجل الكنيسة ليلقّن “جون ميشال” بعضا من أذكار الوداع وتسابيح الغفران… دخل الراهب الغرفة 36 التي كان يملأ العليل جنباتها بأنّات توجّعه ومرضه وآهاته….

بمجرد دخول الراهب الغرفة تجهّم وجْه المريض، وتقطّبت ملامحه؛ وأجهد “جون ميشال” عضلات يده ليومئ إلى مَن حوله من طرف خفيّ بإشارة لم يفهموا فحواها، وبعد أن دَنَا منْه أحدُ أقربائه استوعب الرسالة؛ فالتفت إلى الراهب وحدّثه بحرَج شديد قائلا: «إنه يعتذر منك سيدي، ويطلب منك أن تغادر المكان…، أنا آسف»، لم يستوعب “رجل الكنيسة” ما يحدث، فانسحب من المشهد؛ وهو لا يعلم ما تُخفيه خفقات قلب “جون ميشال” المضطربة المتسارعة…

غادر كلّ من بالغرفة؛ فخلت “مارين” بزوجها المريض؛ وسألته عمّا يدور بخلَده؛ فقال لها بلسان فرنسي، ولكْنة كَنَدية متلعثمة: «أريد أن أتعلم دين أحمد».

انتابت الزوجة حيرة بالغة، فهي لا تعرف عن الإسلام شيئا؟ ولم تتعرف قبلُ على مسلم سوى الشاب الجزائري “أحمد”، ولم يكن لها من مخرج إلا الاتصال به؛ فقد غادر “مونتريال”، وهو في زيارة إلى الجزائر العاصمة، فاحْتار من الأمر، ودلّ الزوجة على كنَدية مسلمة بمونتريال لتلقّن المريض الشهادتين، وتعلّمه الصلاة؛ وهو على فراش المرض والموت، ولم يلْفظ “جون ميشال” أنفاسه الأخيرة إلا بعد أن أدّى خمس صلوات كاملة غير منقوصة، وعادت روح “جون ميشال” إلى بارئها مُسلمة موقِنة محتسبة: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله…

لم تتْرك الأقدار “لأحمد” أن يعانق “جون ميشال”، ويُلقي عليه التحية، ولم تُسنَح له الفرصة ليرعاه بعد إسلامه، فحين عاد الشاب الجزائري إلى كندا؛ لم يجد إلا طيف ذكريات “جون” تملأ المكان… إلا أنه قد ضرب لأحمد موعدا حين يلقاه عند الحوض بين يدي سيد الأنام، وزينة الزمان والمكان: محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
فالسلام على أحمد، والسلام على “جون ميشال”، والسلام على كل مؤمن قدوة في الأولين والآخرين…

– أطوار القصة واقعية وهي لشاب جزائري كانت لي فرصة اللقاء به؛ فقص عليّ القصة بتأثر بالغ.

د. طه كوزي

المصدر: فييكوس نت

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قصة ذات أسلوب رائع مؤثر كادت أن تؤثر علينا أكثر مما أثرت خصال أحمد على جون ميشال، فقط كأنك اقحمت نفسك في سلطة الخالق حينما اجزمت بأن احمد وجون سيلتقيان في الحوض لذا لو علقت الامر بالخالق بقولك إن شاء الله مثلا. والله أعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى