من وحي القلمواحة المعرفة

نحن و”التنين الصيني”: مَنْ هو النائم؟ ومَنْ هو القائم؟

إن أردْت أن تخبِرَ مستوى “الاستلاب الحضاري” في أمّة، ومستوى ولَعها بغيرها؛ ما عليك إلا أن تقيس طول طوابير طلب الفيزا أمام هذه السفارة أو تلك، وإن أردت أن ترسُم حدود الإدراك الجغرافي لمجتمع؛ فما عليك إلا أن تلمح شاشات العرض في مطارها الدولي، لترصُد عدد الطائرات المتجهة شرقا، وتلك الغارقة غربا، لترسم بوضوح نقاط الظل في عقل هذا المجتمع وقلبه؛ الذي يبتدئ من نفسك وذاتك؛ لتغرق في التساؤل: أين الشرق وماذا يمور فيه، وأين هو الجنوب الذي أنا مصنّف ضمنه؟ وما الذي يمور داخله ويموج؟

كنت أطوف صبيحة اليوم (12 أفريل 2015) أرجاء معرض “هونغ كونغ” للتكنولوجيات، رفقة أخ حبيب، ورفيق حكيم، وكنت ألمَح في أرجاء المعرض وأجوائه: حركيةً اقتصادية عاليةً، وإنتاجا تكنولوجيا دفّاقا في السياق “الصيني-الآسيوي”، وخلال هذا التِطْواف بين منتج وآخر، وبين ابتكار وابتكار، لم يكن في النية رصدُ الجديد والوليد في: السلعة، والمنتج، والبضاعة…؛ إذ ليس من تخصُّصي، ولا مــمــّا يسعُني معرفته…، إلا أنّ ما كان يشدُّ اهتمامي، ويحبِس نفَسي، ويُوَرِّم قدَمَاي بالسعْي: هو “سؤال الإنسان المنتِج الفعّال”: بكل ملامحه، وخصائصه، ومنسوبه في: المنطق العملي، والمعرفة، والإدارة، والمهارة التقنية، والتسيير المحكَم… فكان السؤال هَمّا يؤرقني ويحاصرني منذ دخلت الكوكب الآسيوي من مدخله الصيني: أين يولد الإنسان المثمِر؟ ومن أيِّ رحِمٍ يُنجَب ويهِلّ؟

حين أتحدَّث عن معطى الفعالية في “الإنسان الآسيوي” فإنني لستُ أرسمه في ذهن القارئ على أنه: “المهدي المنتظر”، ولا أرشّحه خليفةً لله في الأرض، ولستُ بهذا أبايع “هو جين تاو” ، أو “غوانزو آبي”  “أميرا للمؤمنين”، فالإنسان الآسيوي: في “هونغ كونغ”، وأجزاء من “الصين”، وفي “تايوان”، و”كوريا الجنوبية”… يعاني مثل غيره من أمراض العصر المزمنة من جنس: “الإعجاب الجزئي بالغرب، وبوادر تفكك الأسرة….
إلا أنني أقرأ، بكل صدق وصراحة، في شخص الإنسان “الصيني-الآسيوي”: ضعف الإنسان المسلم اليوم في: التقنية والمهارة، وقلة حيلته في التصنيع، ومنسوب رشده ومدى سفهه في الإدارة والتسيير، والحمّى المرتفعة عنده في الاستهلاك… فقراءة نموذج صناعي، أو اقتصادي، أو سياسي، أو تربوي: ينبغي أن يكون رصدُ الإنسان ومنسوبه: بؤرة التحليل، وبؤبؤ العين…

وراء كل بضاعة راقية: “إنسان عظيم”…

حين يجول الإنسان معرض “هونغ كونغ” للتكنولوجيات؛ فإنه يتحسّس حركيةً دؤوبة في مفاصل الجسد “الصيني” و”الآسيوي”، ويقف على قدرة متجاوزة في المهارة التقنية، و”الكفاءة المؤسَّسة على المعرفة”… فهنا حيث تقف قدَماي تصنع أغلب العلامات الأوربية، والأمريكية، والآسيوية، والغربية، والشرقية… إلا أن السؤال الذي لا يزال يؤرقني ويحبس أنفاسي: هو من أين وُلدت هذه الكفاءة، والحزم، والفعّالية في الإنسان؟ وأين تأهّلت؟ وكيف صارت رقما صعبا في معادلة الاقتصاد الكوني اليوم؟ ولماذا يصطف الإنسان الأسمر، والأسود، والأبيض… عند أعتاب الصين: أهي موازين الكون قد انقلبت وانكفأت؟ ببساطة وعفوية: نعم، إلا أننا لا نزال في غفْوتنا سادرين، نردد مع اللاهين والعابثين: “الصين ذلك التنّين النائم”؛ إنه اليوم مستيقِظ قائم، أما نحن فناعِسُون مُتَثائبون…

حين يتخلّف العقل البشري، وتضمُر كفاءته في التحليل والتمييز؛ فإنه يعتقد واهِما أن السلعة تُنتِج نفسها بنفسها، فيؤمن بالفوضى الخلاقة والعبثية، ويُلقي بالسنن الكونية والقواعد الكلية في سلّةِ مهمَلاتِ ذهنِه، رغم إيمانه وإسلامه، فمن تمام التوحيد لله أن تعتقد أنّ كل فعل إنما هو تمثـــــــُّـــلٌ لفاعل، وكلَّ ثمرة إنما هي أثر من آثار فلّاح ومُزارِع، فالبضاعة، والمنتَج: جيدا كان أم رديئا؛ إنما هو انعكاس لكفاءة منتِجه ومصنِّعه على صفحة الزمن، وإن اغْتال الإنسان هذا المبدأ الكوني في ميزان عقله وقلبه: تزحْزح من دائرة الإيمان والتوحيد  إلى ساحات العبثية، واللاأدرية الحضارية…

صُنع في الصين؟ أم صُنع في اليابان؟ سؤال خاطئ:

قادَني القَدَر الحكيم في زيارة إلى مصنع صيني بمدينة “هْويزو”، وبعد رحلة قاربت الساعتين بلغ بنا المسيرُ منطقةً صناعية ضخمة، وفي جناح من أجنحتها زُرْنا مصنعا صينيا تتربّع مساحتُه على ما يُقارِب: “المائة ألف متْر مربّع” (عشر هكتارات)، وفي المصنع صنوفٌ شتى من المنتجات، ومحرّكات التصنيع، وفي لبّ العملية الإنتاجية: إنسان مختلف الأفُق في الكفاءة، والتركيز، والإتقان، والحركية من الإداري، والخبير، والعامل…؛ إلا أن ما سلبَني في هذه المساحة تسارُع الإنسان الصينيّ في المبادرة، والتحكُّم في تلابيب الإنتاج والتصنيع؛ وبالمناسبة؛ فإن هذا المصنع لا يزال مشروعا فتيّا حالما؛ إذ لم يُتمّ بعدُ عِقْده الثاني من العمُر، ويـُمكننا القول: إن السمة البارزة في الإنسان “الصيني-الآسيوي”: هي تسارُعه في تملُّك ناصية المعرفة الإنتاجية تسارُعا هندسيّا…؛ فنسبة النمو الاقتصادي لأمّة ما؛ رهينة تماما بمستويات “النمو المعرفي” عند أهله وآله.

في هذا المصنع، كغيره من المصانع؛ تجد علامات تجارية شتى مصطَّفة في طابور التصنيع فهذه: “ألمانية”، وأخرى “صينية”، والثالثة “تايوانية”، والرابعة “جزائرية”، والخامسة “نيجيرية”… فقَدْ بات الكثير مما نقتنيه اليوم على أنه بضاعة “إيطالية” أو “كورية جنوبية”…: قد تم تصنيعه أساسا في “الصين”، وفي هذه اللحظة تشوَّش مفهوم الاقتصاد في ذهني، فالاقتصاد الكلاسيكي في عهد الثورة الصناعية لقّننا أن “العلامة التجارية” مرتبطة بمساحة جغرافية ضرورة، ودولة حاضنة حصرا، أما اليوم فقد تغيرت المفاهيم وتبدّلت…

“الاقتصاد المعرفي” (L’économie De Savoir) اليوم لا يؤمن بأفضلية جنس على آخر: أوربيا كان أم إفريقيا أم آسيويا…، ولا يقبل بجغرافية السلْعة وإحداثياتها المكانية، فالبضاعة، في عالم اقتصاد المعرفة، ليست تلك الكومة من الأشياء التي تباع وتشترى (عالم الأشياء)، ولا تلك العلامة الأوربية الفارهة التي تزيّن السلعة وتزركشها (الارتباط بالأشخاص -المستعمِر-) مهما يكن مستوى جودتها.

لقد أضحى المنتج الاقتصادي يعبّر حصْرا عن عبقرية العقول التي طوّرته “علميا”، و”تقنيا” (مخابر، باحثون، براءات اختراع، جامعات…)، ويعكس “حجم المعرفة” التي أنتجته وأنجبته، فالمنتَج اليوم هو ببساطة: مجموع المعايير المعرفية والتقنية التي تجعل البضاعة (الشيء) متمايزا عن غيرها (المنافسون) في: الفعّالية، والوظيفة، ودورة حياة المنتَج…

أما هؤلاء وأولئك ممن اختزلوا “التجارة” في مستوى الشيء، وخنقوا “المعاملة الاقتصادية” في قفَص البيع والشراء، ولم ينتبهوا إلى ما يخفيه جبل الثلج الاقتصادي من مؤسّسات بحثية كامنة، وساعات دراسة وتحليل علمي مرابِطة؛ فإنّ الفناء الاقتصادي قدرُهم لا محالة…؛ فالفرق بيّن والبَوْن شاسع بين حالة “رأس المال” الحركيّة بكلّ ما تكتنزه من معرفة، وسعَة أفق…، وبين حالة “الثروة” الراكدة الخاملة التي يتسلّل إلى خزائنها: دودُ الاستهلاك، والسفَه الاقتصادي، والصبيانيّة المالية…

ومن الأمثلة المعبّرة عن هذا التحول؛ أني حين كنت في زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل سنتين؛ نصحني صديق تركي أني إن أردت شراء أغراض من أمريكا؛ فإنه يتعيّن عليّ أن أقتني المنتجات الصينية لأنها الأحسن والأجود، فصدمني بنصيحته تلك لأن السلعة الصينية في الجزائر، في الغالب، هي الأسوء دون منازع؛ حينها أدركْتُ أن رداءة السلعة التي تصلنا إلى الجزائر إنـما هي رداءة مستورِدها، ومستوى إدراكه؛ لأنه فضّل الربح المادي السريع على معايير الجودة، وأخلاق التداول المالي… وعلينا في أسوء الأحوال: إن لم نمتلك الأهلية للإنتاج والتصنيع، فأضعف الإيمان أن نُحسن الاستهلاك والاستيراد…

وبالمناسبة؛ لا تدفع هذه الملاحظة إلى التشاؤم المطلق، وما ينبغي لها أن تجعلنا نبخس جهود نفَر من الاقتصاديين ممن يرابط في تلة الإنتاج والتصنيع قدْر الوُسْع، ويُلْزم نفسه بتحرّي شروط الجودة ومعاييرها.
ومن الأمثلة الحية على قُدرة الصيني في تملك ناصية المعرفة المنتجة مدينة “شانزان”؛ فقد تحولت على سبيل المثال مدينة “شانزان” من “مدينة للسمك” (والحوّاتين) إلى “وادي السليكون الصيني”، حيث أضحت في غضون عقد من الزمن (10 سنوات) قِبلة عالمية للصناعة الإلكترونية، مستفيدة من استثمار البريطانيين في جارتها “هونغ كونغ” لإنشاء مؤسسات للإلكترونيات مستغلين قلة تكلفة اليد العاملة الصينية، ولم يمر وقت طويل لينقلب السحر على الساحر؛ إذ لم يستغرق الصيني وقتا طويلا ليستوعب التكنولوجية البريطانية ويتحول إلى منافس عالمي في البرمجيات، وأنا أكتب هذه الكلمات في بهْو الفندق الذي أنزل به في حي “وانغ دونغ” أرى زُرَافاتٍ من الأوربيّين من مختلف الدول بعضهم وصل لتوه، وبعضهم الآخر يتفاوض مع شركائه الصناعيين الصينيين في الأرائك المقابلة لي، والبعض الآخر مغادِر لزيارة المصانع في ضواحي “شانزان”…؛ فسبحان مبدّل الأحوال، ومقلّب القلوب…

د. طه كوزي

المصدر: فييكوس نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى