مرآة الصحافةواحة المعرفة

الإباضية .. من صحراء الجزائر إلى مسجد باريس؟!

في الوقت الذي يصرح فيه وزير الشؤون الدينية والأوقاف السيد أبو عبد الله غلام الله أن ما يحدث في غرداية هو بفعل السفهاء ولا علاقة لما يحدث بالصراع المذهبي، يقول الوزير الأول بأن أيادي خارجية وراء زرع الفتنة بين المالكيين والإباضيين ولكن ماذا في ذلك من اكتشاف جديد نكون قد نجهله من قبل، وقد جاء في مقدمة الكتاب الذي ألفه الشيخ بيوض سنة 1964 “أعمالي في الثورة” ومن توقيع الدكتور محمد ناصر سنة 1990 ما يلي: “في 14 جانفي 1989 حلت الذكرى التاسعة لوفاة الإمام الشيخ بيوض إبراهيم رحمه الله، ومرت مثل سابقتها دون احتفاء أو تذكر، ولم يكن هذا الموقف التنكري تجاه الإمام الشيخ بيوض غريبا أو عجيبا فقد تعودنا ذلك وأكثر منه، ولكن الذي يحز في النفس حقا أن يتطاول بعض الأقزام الذين مازالت عقد العنصرية والعصبية القبلية والطائفية مترسبة في أعماقهم…”

عدت لهذه المقدمة التي جاءت في كتاب الشيخ بيوض لما وجدتها تحمل العديد من الرسائل السياسية التي تستوقفنا اليوم وبقوة وبالخصوص بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة غرداية والتي تعددت حولها القراءات والتفسيرات لدرجة أن بعض العقلاء تصرف كالمجانين وعجز على التعامل مع الأزمة التي تتطلب رجالا من طراز خاص، ولكن للأسف بدأ عدد هؤلاء ينحسر ليتمدد في مكانهم الأقزام على حد قول الدكتور ناصر، ولكن السؤال من هؤلاء الأقزام بالتحديد من الذين يذكون نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد والدين الأوحد ومن يقف وراءهم ولمصلحة من؟ ولماذا لا تعالج قضايانا جذريا وفي الوقت المناسب حتى لا تتكرر في كل محطة تاريخية وتستغل لضرب وحدتنا، وهل القائمون على تسيير الشأن العام سواء المحلي أو الوطني في مستوى هذه التحديات؟

لقد تحدث الدكتور ناصر وبوضوح عن تجاهل السلطات لمرجع إباضي مهم في مقام الشيخ بيوض الذي كانت له مواقف بطولية وثورية ضد الاستعمار الفرنسي، كما أنه أشار دون غموض للعنصرية وللعصبية القبلية والطائفية المترسبة في أعماق بعض الأقزام على حد قوله، فهل هؤلاء هم نفسهم الذين يتحركون اليوم؟، لقد أبان الدكتور ناصر بأن السلطة في عهد الحزب الواحد (1962/1988) قد مارست على أهالي منطقة وادي ميزاب أبشع صور الإرهاب الفكري مستعينين بالدرك والشرطة في حوادث مؤلمة لا تنسى من الذاكرة ويقصد حوادث 1964/1975/1985/1989..، فهل والحال هذه يمكن القول إننا لم نتحرك إلى الأمام وفشلنا في القضاء على آفة العنصرية والقبلية والطائفية التي يغذيها اليوم التيار السلفي الوهابي في أوطاننا، كيف لا وهو يؤصل ويفتي بإخراج الإباضية من زمرة أهل السنة والجماعة؟ أليس في ذلك دعوة صريحة للفتنة والفتنة أكبر من القتل، وهل يمكن أن نعفي السلفيين من مسؤولية ما يحدث من فتن في بلاد وادي ميزاب؟

بالعودة إلى نص تقرير وفد المجلس الإسلامي الأعلى الموفد من طرف السيد وزير الأوقاف إلى وادي ميزاب للاطلاع عن قرب حول أحداث سبتمبر 1967 والتي اشتدت فيها الأزمة بين أبناء منطقة وادي ميزاب وبعض مسؤولي الحزب آنذاك والذين سمحوا لأنفسهم دون تقدير لعواقب ذلك حين تدخلهم في الشؤون الدينية والأوقاف وعادات وتقاليد أبناء المنطقة، ندرك جيدا مدى امتداد عمر الأزمة، ومع ذلك ومما جاء في نص التقرير الذي يجب على كل واحد منا العودة إليه ودراسته والاستفادة منه، مايلي: “لقد ثبت لدينا بعد الاطلاع والدرس أن أغلب ما أثير من المشاكل والمنازعات إنما كان منشؤها أمورا شخصية وحزازات نفسية هي مخلفات الماضي (في ذلك الوقت ونظر لها على أنها من مخلفات الماضي ولازال الحبل على الجرار !)، وهي أيضا نتيجة لتصرفات بعض المنتسبين للحزب الذين يريدون باسمه أن يستولوا على كل نفوذ في وادي ميزاب بما في ذلك النفوذ الديني..إن إخواننا الميزابيين جماعة صالحة في دينها ودنياها، محافظة على عاداتها الصالحة التي لا تتنافى والرقي الحضاري في حدود التعاليم الإسلامية…” إلى أن ينتهي التقرير بتوصية يقول فيها “والوفد يرجو من السيد وزير الأوقاف أن يتدخل لدى الدوائر الحكومية والحزبية لتواصل رعايتها وتعهدها لهذه المنطقة حتى يقضي نهائيا على ما عسا أن ينشأ من المشاكل والصعوبات”، إذن الصراع على النفوذ والمصالح الشخصية والعبث السياسي هو وراء كل هذه المشاكل التي ورثناها من الماضي ولازالت قائمة تهدد استقرار البلاد والانسجام والسلم الاجتماعي، ليس هذا فحسب بل حتى تقرير اتحادية منظمة المجاهدين بغرداية لسنة 1986 كما جاء مفصلا في كتاب الشيخ بيوض “أعمالي في الثورة”و وكما ورد في رد نخبة من مجاهدي القرارة آنذاك، كان مزيفا للتاريخ ومجافيا للحقيقة والصواب ومتجنيا على الشيخ بيوض ودوره في ثورة التحرير التي تجنّد لها وأبناء منطقته منذ اندلاعها وبذلوا النفس والنفيس من أجل أن تستقل الجزائر وتستعيد سيادتها كاملة غير منقوصة، فلماذا إذن استهداف المنطقة وأهلها وزرع بذور العداوة والشقاق فيما بيننا ولمصلحة من ومتى نتجاوز هذه المطبات ونتفرغ للبناء والتنمية؟؟

من سلسلة النضال الثوري الذي وثقه أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين ومفسر القرآن الكريم الشيخ بيوض في كتابه الذي هو موضوعنا اليوم، أن من الأسماء التي يذكرها من المجاهدين من الذين زاروا منطقة وادي ميزاب أثناء الثورة المجاهد سعيد عبادو وزير المجاهدين السابق والأمين العام لمنظمة المجاهدين الحالي ومما قاله الشيخ بيوض “جاء سعيد عبادو بجنده بعد أحمد طالب وسكنوا عندنا أياما فقمنا بهم أحسن قيام كسابقيه الذين نسيت أسماءهم وكثير منهم لا يقبلون حتى السؤال عن أسمائهم، كانت لي جلسات ممتعة مع سعيد عبادو”، فعند قراءتنا لحديث الشيخ نلاحظ أن الود كان مفقودا بينه وبين بعض المجاهدين ولكن ما هو سر ذلك وما هي دواعيه، وما دام وأن الشيخ قد اعترف بأن جلسات ممتعة جمعته بسعيد عبادو لماذا لم نشهد للمجاهد عبادو أي دور أو تدخل في الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة غرداية ولماذا لم نسمع له صوتا وهو الذي يعرف هذه المنطقة ورجالها منذ عهد الاستعمار، كلها تساؤلات مشروعة تحتاج إلى إجابات واضحة وشفافة حتى يمكن استئصال الداء من جذوره وتفويت الفرصة على المتآمرين.

لقد وقف الشيخ بيوض موقفا بطوليا ضد مشروع ديغول بخصوص فصل الصحراء الجزائرية وإلحاقها بفرنسا ولم يستجب لا للترهيب ولا للترغيب الذي تقدمت به سلطات المستعمر، وكرد فعل على هذا الموقف يقول الشيخ بيوض إنه في سبتمبر 1960 “أشعل المستعمرون وأذنابهم من الانفصاليين فتنة عمياء بين بني ميزاب والعرب بتحريض بعض الأوباش العرب في ورڤلة على السطو على دكاكين الميزابيين وممتلكاتهم وبساتينهم فأثاروا غوغاء العامة ممن لا خلاق لهم، فقتلوا وجرحوا وسلبوا ونهبوا وأشعلوا النار وأفسدوا غلل النخيل، وكانت فتنة عمياء لم يشهد لها مثيل منذ قرون- وقد رفع إليهم أنهم أصحاب السلطان: انظروا هذا ما سيفعله بكم العرب بع الاستقلال إذا تخلينا عنكم، إنهم سيبدأون بنا ويثنون باليهود ويثلثون بكم، انتم لا تفهمون ولا تفيقون من سباتكم وتصرون على البقاء معهم، الخ…”، سبحان الله، إنه نفس المشهد نعيشه اليوم ونفس صور الهرج والمرج التي يجند لها الغوغاء، فماذا لو كان الشيخ بيوض حيا بيننا اليوم وتكررت أمامه نفس المحنة والفتنة وهو الذي قال بالأمس “هناك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ظن الفرنسيون أن هذه أنجع وسيلة لحمل الميزابيين على قبول فصل الصحراء لكني وحدي بفضل الله أفسدت عليهم خطتهم..”، إن اللعب على ورقة فرق تسد لازالت تستخدم من أعداء الداخل والخارج والمتمعن في كلام الشيخ بيوض يجد أنه قال “ابتلي المؤمنون” ولم يستخدم تعبيرا آخر يفرق به وحدة الجماعة وهذا هو الذي نعرفه عن إخوتنا الإباضية فتراثهم التاريخي والفقهي كله يذكر حرصهم على الوحدة وعدم الاستعراض بالقوة على الآخر وبالتسامح والتعايش مع غيرهم من أتباع المذاهب والفرق وبغضهم الشديد للظلم والحڤرة ونجدتهم للمظلوم والتكافل الاجتماعي ولا ننكر عليهم الدهاء السياسي، فأين الخلل إذن؟

إن الحقيقة المرة التي يكشفها لنا الشيخ بيوض وهو يسرد السيناريو الذي وضعته سلطات فرنسا الاستعمارية، هو فضح بعض المتعاونين معها في هذا الاتجاه، فيقول: “ومن بين الأعوان الذين يسخرهم الاستعمار لخدمة أغراضه بهذه المناورات يوجد المسمى حمزة بو بكر المعروف باتصالاته بالأوساط المالية الاستعمارية …وكلف حمزة منذ سنة 1959 بالحصول على تأييد الشخصيات المحلية للمشروع،…ولكن الشخصيات الصحراوية رغم كل ما بذله حمزة بوبكر لها من وعود ورغم كل ما لوح به من تهديدات رفضت المشروع وعارضت بقوة كل محاولة لتجزئة الوطن”. نعم كل المحاولات فشلت مع الرجال المخلصين ولكن وبالرغم من ذلك ومن لا يعرف حمزة بوكر فيجب أن يعلم بأنه والد دليل بوبكر عميد مسجد باريس وما أدراك ما مسجد باريس، فهل هذا يعني أن فرنسا لا تتنكر لعملائها حتى وإن كانوا تحت التراب ونحن نتنكر للشرفاء من أبنائنا حتى وإن كانوا فوق التراب لدرجة تأميم أملاك الشيخ بيوض وإيداعه السجن وحرمانه من التدريس في المساجد خلال السنوات الأولى من الاستقلال، وهل يمكن لمسجد باريس أن يقوم بدوره الديني والحضاري والقائمون عليه تحوم عليهم شبهة العمالة؟ إنه سؤال كبير يحتاج لرجل رشيد ويتحلى بالشجاعة ليجيب عليه.

  بالرغم من حجمه الصغير إلا أن الكتاب الذي خلفه لنا الشيخ بيوض يحمل الكثير من الثقل التاريخي والسياسي والديني ويطرح الكثير من الإشكالات التي لم تحظ بعد بالعناية والدراسة العميقة، وبالتالي أرى أنه من أولويات مركز الدراسات الإستراتيجية لمؤسسة الشروق هو الاعتكاف الفكري والعلمي على ملف الإباضية وعلاقتها بالمرجعية الدينية الوطنية والله الموفق.

عدة فلاحي

المصدر: جريدة الشروق اليومي الجزائرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى