فتنة غردايةملفات وآراءواحة المعرفة

سبع سنبلات خضر..!

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ..!

أو فتنة غرداية، مقاربة بسورة يوسف (عليه السلام)

  1. لماذا هذه المقاربة؟
  2. الحقيقة الأولى: “الحسد أمُّ المكائد”.
  3. الحقيقة الثانية: “الابتلاء يأتي غالبا من أقرب الناس”.
  4. الحقيقة الثالثة: “الغفلة باب الهلاك والخسران”.
  5. الحقيقة الرابعة: “الغضب يدفع إلى الجريمة، والشرارة تشعل الحريق”.
  6. الحقيقة الخامسة: “التقوى والصبر هما مفتاح كل هم وبلاء”.
  7. الحقيقة السادسة: “التوكل في الأزمات على الله وحده، وأخذ الأسباب لا ينافي التوكل”.
  8. الحقيقة السابعة: “الحضارة أن يعمل الفرد من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الفرد”.
  9. آيات العقيدة والسلوك في سورة يوسف “عليه السلام”.

 بسم ا لله الرحمن الرحيم

سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ..!

أو فتنة غرداية! (الحلقة السادسة)

مقاربة من سورة يوسف عليه السلام

لماذا هذه المقاربة؟

لا ريب في أن القصص القرآني منبع ثري يتدفق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا ريب في أن الله حين وظَّف القصة في القرآن يعلم ـ وهو أعلم بطبيعة الانسان ـ بمدى تأثير هذا الأسلوب في ذهن الانسان وقلبه وعاطفته، ولا ريب في أن الله جعل هذه القصص من إعجاز هذا الكتاب المعجز لما فيها من العبرة والذكرى،مصداقا لقوله تعالى: “إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنِ اِلَهٍ اِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [آل عمران: 62]، فنحن عندما نتأمل في أبعاد هذه الآية الشريفة نلحظ بجلاء كيف ساقها الله بأسلوب تتلاحق فيه التأكيدات أربع مرات، التأكيد بإن، وباسم الإشارة (هذا)، وباللام (لهو)، وبالضمير المتصل (هو)، ليصل إلى حقيقة واحدة وهي أن القصص المروي في القرآن هو الحق، ولاحق غيره، كما أن الله حقيقة أبدية خالدة لا يشك فيها مخلوق أبدا، حيث ذيل الآية بقوله: } وَمَا مِنِ اِلَهٍ اِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، فكأنه يريد بل هو يريد أن يقرر في أذهان المؤمنين التالين للقرآن بأن حقيقة قصص القرآن حق، كحقيقة أن الله حق.

ومن هنا ينبغي للمؤمن أن يعود في ابتلاءاته التي تعترض حياته كلها وما أكثرها ليجد لها حلا في كلام رب العالمين مع ما يتوسل به من الأسباب الدنيوية الأخرى، وقد استوقفتني قصة يوسف عليه السلام كما استوقفت غيري ولا شك بما احتوت عليه من عظات بالغات، وحكم خالدات، دعتني بأسلوبها المعجز ومشاهدها إلى التأمل والتفكير واستوقفتني بصفة أخص تلك البداية التي استهلت بها السورة بمشهد سيدنا يوسف وهو يخبر أباه برؤياه العجيبة الغريبة حين سجد له القمران، وسجد له معهما أحد عشر كوكبا، سرعان ما تفطن أبوه يعقوب النبي الموحى إليه بخطورة الرؤيا، فقال: “قَالَ يَابـُنَيِّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيـَاكَ عَلَىآ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا اِنَّ الشَّـيْطَانَ لِلاِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ” [يوسف:5].

فدلَّت هذه البداية الرائعة على روح القصة كلها من بدايتها إلى نهايتها، على أنها هي قصة الكيد والحسد والحقد وكل نوازع الانسانية الضعيفة، مدفوعة بالشيطان الرجيم “اِنَّ الشَّـيْطَانَ لِلاِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ”، فبمجرد أن قرأت هذه البداية تذكرت أحداث الفتنة العمياء التي عاشتها الجزائر كلها بل كثير من نواحي العالم المتحضر في وطني العزيز القرارة ثم غرداية، ودفعني هذا الشعور السحري الذي أيقظني ـ والناس نيام ـ إلى متابعة أحداث تلك الفتنة مشهدا مشهدا لعرضها على هذه السورة الكريمة العظيمة في محاولة متواضعة للمقاربة (بالباء) وليس للمقارنة، وهكذا وجدتني أمام مشاهد ربانية متلاحقة من الحقائق الانسانية الثابتة، وكنت استحضر مع كل مشهد ما اختتمت به السورة “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الاَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىا وَلَكِن تَصْدِيقَ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُومِنُونَ” [يوسف: 111].

فكيف كانت المقاربة بين هذه المشاهد اليوسفية وإخوته، وبين الحوادث المرَّة الأسيفة التي تحدَّت الشرع والعقل، والقانون؟ في فتنة عمياء طاحنة بين إخوة يجمع بينهم الإسلام، واللغة والوطن. كادت ـ لولا لطف الله ـ تُودِي بالأخضر واليابس، احترق فيها مال كثير، واستشهد فيها أبرياء مسالمون، وروعت فيها أنفس ساكنة وديعة، واعتدي فيها جهارا نهارا على الأمن والسكينة التي اشتهرت بها هذه المنطقة العزيزة من الجزائر إذ كانت تعد البركة الرائقة الهادئة للأمن والأمان، يقصدها السائحون والزائرون للاستمتاع بوجهها الرائع الجميل، والاستفادة من حضارتها العريقة الأصيلة في كل مناحي الحياة بها.

الحقيقة الأولى: “الحسد أمُّ المكائد”.

في سورة يوسف عليه السلام يحدد لنا القرآن الكريم السبب الرئيس في تألُّب إخوة يوسف التسعة ضده من خلال قوله تعالى: “إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىآ أَبِينَا مِنـَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ اِنَّ أَبـَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقْـتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يـَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنم بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ” [يوسف: 8، 9].

لا شيء من الأسباب الظاهرة المادية دفعت إخوة يوسف إلى الكيد له والانتقام منه سوى الحسد المتمكن من قلوبهم من أجل مكانة يوسف وأخيه بن يامين من قلب أبيهم يعقوب عليه السلام، ومن هنا فإنهم رأوا بأنَّ الوسيلة الوحيدة لشفاء غيظ قلوبهم منه ومن أخيه، إزالته من الوجود ليخل لهم وجه أبيهم، إذ لا يعقل حسب رأيهم أن يميل إلى الإثنين ويترك التسعة “وَنَحْنُ عُصْبَةٌ” وهذا هو منطق الحساب المادي والنظر إلى الأمور من ناحية الكم لا الكيف.

المقاربة:

في فتنة غرداية والقرارة اتضح بما لا شك فيه بأن الدافع الأساس إلى حب الانتقام من الأنفس والممتلكات الخاصة، ديارا، ومحلات، وسيارات، هو الحسد الذي يأكل قلوب أولئك الأوباش الذين حرموا من هذه النعم الدنيوية التي رأوها علامة على الترف والتنعم والاستمتاع بمتاع الدنيا.

وإذا حرَّك الحسد القلوب والأنفس أشعل ما بها من حقد، ودفع الحقد بالتالي إلى الانتقام في لحظة قاتمة غاضبة دون تمييز بين الضار والنافع والبريء والمتهم، وتجاوز بها الشيطان وجنوده كل حدود الشرع، والعقل، والقيم الانسانية والمواطنة، ولا يقف عندئد أمام رعونتها حد من الحدود الشرعية كانت أم قانونية.

والذي يقف وراء إثارة نزعة الحسد، والحقد الأعمى إبليس اللعين الذي اتخذ هذا السلاح هو وقبيله منذ خلق الله آدم ضد البشرية كلها، وعندما نتصفح تاريخ الصراع بين الميزابيين وإخوانهم المجاورين لهم من الأعراب، يبرز هذا الدافع النفسي العميق المتجذر في نفوسٍ لم ينقِّها الإيمان ولا الإسلام ولا الجوار ولا المواطنة إلا من رحم الله وعصمه.

وهكذا كلَّما هدأ ذلك الصراع في فترة من الفترات وعاد الرشد إلى النفوس من الطرفين المتساكنين، نزغ الشيطان بينهما وأشعل النار من جديد، ونفخ في رمادها الذي لا يسكن إلا ليتأجج في لحظات الغضب العارم، وهذا الذي تشير إليه الآية بالتحديد، حيث يشير القرآن من خلال قولة سيدنا يوسف مخاطبا أباه بعد اجتماع الشمل مع إخوته بعد أن جاؤوا من البدو واجتمعوا متسامحين في أرض مصر “وَقَالَ يَآ أَبَتِ هَذَا تَاوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدَ اَحْسَنَ بِيَ إِذَ اَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنم بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيَ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ اِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” [يوسف: 100].

هذا الموقف يذكرنا بقولة يعقوب عليه السلام حين حذَّر يوسف في بداية القصة من أن يحكي لإخوته رؤياه خوفا من حسدهم الذي هو مدخل لإبليس اللعين حيث قال }اِنَّ الشَّـيْطَانَ لِلاِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{ [يوسف: 5].

الحقيقة الثانية: “الابتلاء يأتي غالبا من أقرب الناس إلى الانسان”

في قصة يوسف عليه السلام يحدِّد القرآن موطن الابتلاء ومركزه بأنه إنما جاء يوسف وأخاه من جهة إخوته منذ أن قال يوسف لأبيه “إِنـِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ{ ومنذ أن قال يعقوب عليه السلام }قَالَ يَابـُنَيِّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيـَاكَ عَلَىآ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا…” [يوسف: 5].

وتؤكد السورة الكريمة هذه الظاهرة من خلال مشاهدها المتتابعة صريحة أحيانا، وبالتلميح أحيانا أخرى، وتدل بعض المشاهد التي حدثت بين إخوة يوسف وأبيهم يعقوب عليه السلام على أنهم طرف أساس في محنة يوسف وأخيه بن يامين كما جاء في قوله تعالى: “قَالَ لَنُ اُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىا تُوتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَاتُـنَّنِي بِهِ إِلآَّ أَنْ يُّحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىا مَا نَقُولُ وَكِيلٌ” [يوسف: 66].

وبما أن سيدنا يعقوب نبي يوحى إليه كان على علم مسبق بأحداث القصة ونتائجها، وجاء على لسانها تحديد مسؤولية الإخوة؟ وبأنهم طرف أول في تطورات القصة كلها كما هو معروف.

والعجيب من أمر الله سبحانه، أن الابتلاء عند الأنبياء والمرسلين يأتي دوما من الأرحام والأقارب، فآدم جاءه من ابنيه قابيل وهابيل، نوح من ابنه وزوجه، هود وصالح وشعيب من أقوامهم المقربين إليهم، لوط من زوجه، إبراهيم من أبيه آزر ثم جاءه الامتحان من ابنه إسماعيل وزوجه هاجر، موسى من أخيه هارون وقومه الأقربين منه، عيسى عليه السلام من حوارييه، يونس من قومه الذين دفعوا به إلى بطن الحوت، إلى أن نصل إلى سيدنا محمد خير الخلق أجمعين فيأتي ابتلاؤه من أعمامه، وبني قومه من قريش وهكذا…

ألا يدل هذا على أن لله في هذا الابتلاء الذي يأتي من الأقارب حكمة بالغة وهي امتحان للصبر واليقين أولا وقبل كل شيء ؟؟؟

المقاربة:

في فتنة القرارة وغرداية يأتي الابتلاء من أقرب الناس إلينا من إخواننا المتساكنين معنا، من إخواننا وبني عمومتنا المجاورين لديارنا ومساكننا منذ مئات السنين في الولاية بل في البلدية نفسها، ولم يأت قط خارج حدود تلك البلديات رغم أننا نتعامل والحمد لله مع كل الولايات الأخرى إذ لم يقف تعاملنا في حدود بلدياتنا، فهو لم يأت من ولاية الأغواط أو الجلفة أو غيرهما مثلا.

فعلى الرغم مما يقال من حين إلى آخر عن يد خارجية، محاولة للتبرير والتجاوز المبني على الظن والحرص، أو على الدبلماسية السطحية، والسياسة الثعلبية المراوغة، فإن الأحداث هنا أكدت مرة أخرى أن الشرارة اندلعت، والنار التهبت بأيادي من المتجاورين المتساكنين، بل شارك فيها من يظن فيهم الحفاظ على الأمن، وسلامة المواطنين من شرطة ومسؤولين إداريين رسميين، وهذا مصداقا لقول القائل: “يؤتى الحذر من مأمنه”، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الحقيقة الثالثة: “الغفلة باب الهلاك والخسران”.

في سورة يوسف عليه السلام يتجلى التحذير من الغفلة صراحة حينا وتلميحا أخرى، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الظاهرة منذ البداية على لسان النبي يعقوب عليه السلام حين خاطب أبناءه محذرا إياهم أن يغفلوا عن أخيهم يوسف فيأكله الذيب.

“قَالَ إِنِّي لَيُحْزِنـُنِيَ أَن تَـذْهَـبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَّاكُلَهُ الذِّيبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ” [يوسف: 13]، والغفلة ضعفٌ بشرى يعتري الانسان من حين إلى آخر، ليبين الله تعالى من خلالها ضعف هذا الانسان المخلوق المحتاج دوما إلى ربه القوي القيوم الذي لا تاخذه سنة ولا نوم كما قال الشاعر العربي:

فيا لله للعجب العجيب      وللغفلات تطرأ للأريب

والغفلة هي باب من أبواب الشيطان يدخل منه إلى القلوب المؤمنة فيفسدها، ويعكر صفو روحانيتها ولو للحظات خاطفة، ومن تم قال الله محذرا عباده المؤمنين حيث يقول: “وَاذْكُر رَّبـَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاَصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ” [الأعراف: 205]، فالذكر إذا هو علاج هذه الآفة في النفس البشرية، وهي مركز الصراع الأبدي بين الذاكرين والغافلين، والساهين والمتيقظين، والواعين والجاهلين.

وإشارة القرآن الكريم إلى هذه الآفة من خلال هذه القصة المعجزة دليل آخر على أنها كثيرا ما كانت سببا رئيسا في الهلاك والخسران.

وعلى الرغم من أن يوسف لم يأكله الذيب كما هو معروف، ولكنه مجرد ورود الكلمة على لسان يعقوب فتحت الباب مشْرعا أمام الهلاك والخسران، إذ اتخذها إخوة يوسف حيلة، ومبررا كاذبا حين جاؤوا أباهم عشاء يبكون، متظاهرين بأن يوسف قد أكله الذيب في حال غفلتهم حين ذهبوا يستبقون وتركوا يوسف عند متاعهم وحيدا دون رقيب أوحسيب.

وأحسب أن القرآن عندما يورد هذا المبرر الذي لم يقع لأنه تبرير كاذب من إخوة يوسف وتمثيل مفتعل لا صلة له بالواقع أصلا، يفعل ذلك ليحذر المؤمنين من خطر الغفلة على القلوب المراد به على ما نحسب الغفلة عن ذكر الله مطلقا في جميع الحالات، التي تعايش الانسان في حياته اليومية العادية، أكان ذلك في علاقته مع ربه أم في علاقته مع غيره من أبناء مجتمعه.

المقاربة:

ما من شك في أن غفلتنا عن الله وذكره من الأسباب الرئيسة التي أشعلت نيران الفتنة بين الإخوة المسلمين المتساكنين في القرارة وغرداية، فإن الغفلة عن ذكر الله تبعد الانسان عن حدوده الشرعية في علاقته بربه أولا، وعلاقته بإخواته ثانيا، وعلاقته بنفسه ثالثا.

فلولا الغفلة عن ذكر الله في جميع الحالات المشار إليها ما أدت مباراة كرة القدم إلى أن تكون شرارة عمياء تشعل الحريق المهول الذي سرعان ما امتد من ميدان كرة القدم في القرارة إلى ساحات وميادين غرداية، وبريان وبنورة، وبنى يزقن، ولولا الغفلة عن ذكر الله في جميع الحالات، ما اندفع أولائك الشباب الطائشون ملثمون وغير ملثمين إلى استخدام كل وسائل التدمير والتخريب، والتقتيل والترهيب، فتزهق الأرواح، ويروع الأموات والأحياء معا، وتنتهك حرمات المحصنات، ويتعدى على الآمنين في بيوتهم جهارا ونهارا.

الغفلة بمفهومها المادي هذه المرة هي التي أدَّت الآمنين في لحظة اغترار، أو ثقة بالنفس زائدة، إلى هذا الأمان الذي انقلب فجأة إلى إعصار مدمِّر، وطوفان جارف، وقد قيل قديما وحديثا: “الأمان بدعة”، وقيل في الحكمة السائرة: “يؤتى الحذر من مأمنه”، والثقة بالنفس أحيانا تكون بلاهة وسذاجة، فهل تكون هذه الصفعات المؤلمة بمثابة تلك الصفعة التي تجعل المغشي عليه يعود إلى صحوته؟ وهل نفتح أعيننا لنرى الأفق واضحا أمامنا؟

الحقيقة الرابعة: “الغضب يدفع إلى الجريمة، والشرارة تشعل الحريق”

أشرنا في الحقيقة الأولى من قصة يوسف عليه السلام بأن الحسد هو أم المكائد، وأن الحسد يورث الحقد والحقد يشعل الغضب والغضب يدفع إلى الانتقام .

ففي هذه القصة القرآنية العظيمة إشارة واضحة بأن إخوة يوسف سرعان ما دفعهم الحسد إلى حب الانتقام منه بالقتل، حيث قال الله تعالى: }اقْـتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يـَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ{ [يوسف: 9].

فكما دفع الشيطان قابيل لحسده من أخيه إلى قتله، كذلك فعل هنا حيث دفع إخوة يوسف في السعي إلى قتله وإزاحته من وجودهم ليخلو لهم وجه أبيهم…، ولكن الله أراد أن يكون من بين نار الغضب وشعلة حب الانتقام من يفكِّر بهدوء وبصيرة وراحة بال رغم ذلك، وكأنه يريد أن يقول لنا بأنه يوجد في الجماعة الضالة دوما فرد صالح، وعقل هادئ مستنير، قد يكون سببا لرجوع الجماعة كلها إلى جادة الصواب، والطريق الصحيح، وقد يكون هذا الفرد الصالح بمثابة القطرات من الماء التي تخمد النار المشتعلة في القلوب، قال تعالى: “قَالَ قَآئِـلٌ مِّـنْهُمْ لاَ تَقْـتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْـقُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ يَلْـتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيـَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ” [يوسف: 10].

وتردد الموقف نفسه من كبيرهم الذي أبى أن يغادر مصر دون الرجوع ببن يامين أخ يوسف، لأنه أخذ موثقا من أبيه يعقوب على ألا يعود إلى مصر بدونه، “قَالَ كَبِيرُهُمُ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدَ اَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُّمْ فِي يُوسُفَ فَلَنَ اَبْرَحَ الاَرْضَ حَتَّىا يَاذَنَ لِي أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين” [يوسف: 80].

المقاربة:

ما من شك في أنَّ الغضب يُغشي الأبصار فلا تمييز في حالتها هذه بين الحق والباطل، وما بين الخطأ والصواب، بل هي لا تفرق بين البريء المسيء فإن الذين قُتلوا في فتنة غرداية أناس أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم من بني فلان، وأن ذلك الشاب الذي طعن حتى الموت كان في موقف دفاع عن حرمة بيته وعرضه، وأن الذين اعتدوا على الحرمات من الملثمين الأوغاد، ومن المجاهرين الأنكاد إنما كانوا مُقادين بالغضب العارم الذي لم يفرق بين المسالم والظالم.

وكما دفع الغضب إلى الجريمة النكراء من طرف الظالم، فإن الغضب قد يدفع المظلوم إلى الحكم المعمم فيرى من خلال جريمة بعض الأفراد أن القوم جميعا من تلك الطينة العفنة فلا يميز حينئذ بين الصالح والطالح والمتهم والبريء، ويخيل إليه في ساعة الغضب الأحمر، والحزن الأسود كل الألوان حمراء ملتهبة ، وكل الطرق ظلماء وكل الوجوه سوداء كالحة.

فإن التعيم هكذا بدون تفريق أو تمييز، منهج عقلي ظالم وعندئد يركب المرء بتفكيرٍ على هذا المنهج الذي ركبه الظالمون أنفسهم، فلا يكون بينه وبين الظالمين فرق، ويستوي البريء والمسيء ويُصبحان عند الله سيان، مع أن الله يقول: “قُل لاَّ يَسْتَوي الْخَبِيثُ وَالطَّـيِّبُ وَلَوَ اَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ” [المائدة: 100]، فليس الكثرة الغالبة سببا في أن نغضي الطرف عن القلة المحسنة، بل المفروض أن تكون سببا في تعيين الكثرة المسيئة, والوقوف جميعا ضدها، وقد رأينا من أحداث غرداية كيف وقف المنصفون في الجزائر كلها مع الفئة المظلومة رغم قلتها ضد الفئة الظالمة على كثرتها وادعاء الحق إلى جنبها، فإن الشمعة الضعيفة تبدِّد الظلام على الرغم من ضعف نورها، والحق ساطع دوما مهما اشتد سواد الظلام حوله، وراية الحق خفاقة ولو تمادى الباطل بكبريائه زمنا، وحاول أن يموه الحقيقة بحيلته ومكره، وكذبه وزيفه.

الحقيقة الخامسة: “التقوى والصبر هما مفتاح كل هم وبلاء، والفرج يأتي بعد الشدة”

مدار قصة يوسف عليه السلام من أولها إلى آخرها هي هذه الحقيقة الربانية، “إِنَّهُ مَنْ يَّتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 90]، بهذا أجاب يوسف إخوته عندما عرفهم وهم له منكرون، وعندما جاؤوه يطلبون الصدقة منه وهو في عز الملك والسلطة وهم في ذل الشقاء والمسغبة، وهي خلاصة أكدها القرآن بإعجازه البياني في كلمتين اثنتين هما: التقوى والصبر، ليطوي بذلك كل المراحل التي مر بها يوسف في محنته: في الجب وحيدا مظلوما، وفي السوق بين أيدي المشترين عبدا مهينا، وفي بيت العزيز غريبا حزينا، وأمام شهوة زليخاء العارمة تقيا أمينا، وعلى سدة الحكم حفيظا عليما، وعند اجتماع شمله بأبويه وإخوته ملكا مكينا، وأخا شفوقا حليما، إنَّه المثل الأعلى من المجتبين المخلصين الذين اختارهم الله لعباده المؤمنين الصابرين المحتسبين من خلال هذه السورة العظيمة الفريدة في أسلوبها وطريقتها وموضوعها.

وكان كذلك موقف أبيه النبي يعقوب في محنته واختباره صابرا محتسبا أجره عند الله يقابل الشدة بالصبر الجميل والفتنة باليقين الثابت، و لم ييأس قط من رحمة الله ولم يشك في فرجه مع شدة بلواه، “يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُّوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” [يوسف: 87].

ومن مظاهر التقوى والصبر أن لا يشتكي العبد وهو في بلواه إلا لربه وحده، “قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِيَ إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ” [يوسف: 86].

المقاربة:

كثير من المتعجلين المظلومين يتعاملون في الأزمات مع الله الخالق الديان بمنطق تعاملهم مع المخلوقين الضعفاء من بني الانسان، فيتعجلون الاستجابة ويظنون بالله الظنونا، والمفترض في المؤمن أنه يقتدي بعباد الله الصالحين وكيف كانوا مع الابتلاء خيرا أو شرا كانوا يقدمون اليقين ستارا واقيا وإيمانا ثابتا معتقدين في أن الله لا يظلم أحدا، وأن زاد التقوى خير الزاد في كل حال، ومن مظاهر التقوى التحلي بالصبر والشكر عند البلوى وعدم الشك طرفة عين في القيم الاسلامية والثوابت الحضارية، قال بعض الناس ممَّن ابتلوا في ممتلكاتهم أو أنفسهم وسوس لهم الشيطان بعدم الاعتماد على القيم الاسلامية الثابتة ولاسيما من الشباب ذوي التجارب الفجة والايمان المتلجلج، فانساقوا مع بعض التيارات التي تدعو إلى الدعاوى الجاهلية، مغترِّين ببعض الشعارات السياسية الجوفاء، واهمين بأنها هي التي ستدافع عن حقوقهم و تنتصر لقضيتهم، وما علموا أو قد علموا فتعنتوا بأن العادل الأبدي والمنتصر القوي هو الله وحده لا غيره.

فمن شأن المؤمن الذي يتحلى باليقين أن يتخلَّق بأخلاق المسلمين والصالحين الذين اجتباهم الله لهذه الخصلة الربانية العالية فيهم، لا يتزعزع في الشدائد له إيمان بالثوابت، ولا يتلجلج لهم لسان في موقفَي الصبر والشكر معا، ولنتذكر دوما أنَّ أجدادنا إنَّما اعتمدوا في بنائهم الحضاري على الصراط المستقيم عقيدة وسلوكا وأخلاقا، فنجحوا، وطبَّقوا منهج القرآن الكريم في كل أدوارهم الحضارية فنجوا، فكيف بنا نحن اليوم ننساق مع ما يريده الكائدون لنا بضرب رموزنا وتشويه سمعتنا؟ والاغترار بالبريق الدنيوي بعيدا عن منهج الله…

الحقيقة السادسة: “التوكل في مواجهة الأزمات على الله وحده، وأخذُ الأسباب لا ينافي التوكل”.

عرضَ الله سبحانه وتعالى علينا هذا الموقف في قصة يوسف عليه السلام في مشهد واحد عابر قد لا يتفطن له كثير من القراء، وذلك أن يوسف بعد محنته مع زليخاء التي انتهت به إلى السجن، وبعد أن شرح رؤيا السجينين اللذين كانا معه بقرب خلاص ساقي الملك، وبقرب تنفيذ الصلب في ذلك الذي رأى الطير تأكل من رأسه.

فإنَّ يوسف بدا له وهو إنسان ضعيف أن يطلب من ساقي الملك الذي تحقق خروجه من السجن أن يذكره عند الملك ليفرج عنه من سجنه الذي دخله مظلوما دونما جناية، وإنما لوشاية من امرأة العزيز وصويحباتها من نسوة المدينة كما هو معروف، ويقول الله تعالى: “وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنـَّهُ نَاجٍ مِّنـْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبـِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيـْطَانُ ذِكْرَ رَبـِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ” [يوسف: 42].

وكأن الله يعلمنا بأن التوجه في الأزمات لا يمكن أن تكون فيه نية الاعتماد إلا على الله وحده، مع الاحتياط بأخذ الأسباب، لكن دون أن تشوب نيتنا في الاعتماد على الله والثقة به والتوكل عليه بإشراك تلك القدرة مع أية قوة مهما تكن هذه القوة البشرية على أنها هي التي ستخلصنا مما نحن فيه، وإنما القادر على ذلك وحده هو القوي، الجبار، المتكبر، المنتقم، المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وذلك كما قال سيدنا يعقوب وهو في قمة الحزن والبلوى: “إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِيَ إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ” [يوسف: 86].

وقد جاء أخذ الأسباب التي لا تنافي التوكل في مشهد آخر من مشاهد السورة مع النبي يعقوب عليه السلام حين طلب من أبنائه الذهاب إلى مصر لطلب الميرة، وكان يوسف قد اشترط عليهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم وهو بن يامين، ولم يسلمه أبوه لهم ـ كما هو معروف ـ إلا بعد أخذ المواثيق من أبنائه، “فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىا مَا نَقُولُ وَكِيلٌ” [يوسف: 86].

وهذا تأكيد على الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، قال لهم: “يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنم بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنَ اَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ اِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ” [يوسف: 67].

وأحسب ـ حسب رأيي المتواضع، الذي أرجو أن يكون صائبا ـ أن ليس معنى الدخول من أبواب متفرقة القصد منه الخوف من العين وحسب، بل معناه أيضا أنَّ على الانسان المؤمن أن يطرق كل الأبواب لتفتح له في سبيل قضاء مصلحته الدنيوية، ولكنها بشرط تسبيق نية الاعتماد على الله وحده معتقدا “اِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت” كما قال النبي يعقوب بصريح العبارة، وهي تعليم لنا قبل كل شيء.

المقاربة:

بعض الناس من ضعيفي الإيمان يخيل إليهم بأن معارفهم من السلطة الإدارية هم الذين يحلُّون لهم مشاكلهم، وما أكثر المشاكل في وطننا العزيز، ويصبح هذا الهاجس عندهم خطيرا، ولاسيما عندما تضيق حلقات المصائب والأزمات حولهم، وعوض أن يرفعوا أعينهم إلى السماء متضرعين داعين الله المولى القدير ليحل لهم تلك المشاكل، ينصرفون بقلوبهم وأبصارهم إلى الأرض… إلى فلان الخطير وفلتان الوزير والسكرتيرة والسكرتير، علما بأن هؤلاء لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بأوامر تأتي أحيانا بواسطة الهواتف دون أن يعلم أصحابها، وقد ينفذون ما يؤمرون به دون التحقق من جدوى تلك الأوامر وعدالتها وصوابها، والمؤمن القوي ينبغي ألا يرضخ للتهديد والوعيد مهما يكن مصدره.

وإذا توسل بأسباب المخلوقين من البشر، فعليه أن يعاين عقاب الله ومثوبته من عمله ذاك الذي يقدِّمه راجيا أبدا الثواب من عند الله، خائفا دوما العقاب منه أيضا، وبذلك يطبق قوله تعالى: “وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ” [البينة: 5].

وضعف الإيمان، والرغبة في الدنيا ومتاعها، تدفع هؤلاء إلى الوقوع في المال الحرام، هدايا، ورشاوى، تزلفا، وتملقا، لاعتقادهم الفاسد بأن أولئك المسؤولين بيدهم الحل والعقد، والأمر والنهي، والضيق والفرج، وقد يتبين لهم بعد فوات الأوان وانجلاء الأزمة خطأ ما اعتقدوا أنه الصواب، فيندمون على ما اقترفوا ولات ساعة مندم، وقد يكون العقاب دنيويا قبل أن يكون أخرويا، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة.

الحقيقة السابعة: “الحضارة أن يعمل الفرد من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الفرد”.

في كل المراحل الصعبة أو السهلة التي مر بها يوسف عليه السلام نعيما كانت أم بؤسا كان قلبه دوما متعلقا بوالديه وإخوته وأهله، رغم كيدهم له وحسدهم وافتراءهم ضده بأنه هو وأخوه “بن يامين” سارقان، “قَالُوا إِنْ يَّسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ” [يوسف: 77].

وكان يوسف يقابل سوء الظن والافتراء بالإحسان لهم كل مرة، فكان الكريم المفضال في ساعة العسر، “أَلاَ تَرَوْنَ أَنـِّيَ أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ” [يوسف: 59].

وباعترافهم هم رغم كيدهم لأخيهم يوسف ـ الذي لم يعرفوه في تلك المرحلة من طلب الميرة والصدقة ـ قالوا لأبيهم وقد تصدق عليهم دون أن يأخذ بضاعتهم “وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتِ اِلَيْهِمْ قَالُوا يَآ أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتِ اِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ” [يوسف: 65].

 كانوا يسيئون وهو يحسن، يكيدون وهو يغفر، يكذبون وهو يتسامح، همه الوحيد أن يلتقي بأبويه وإخوته رغم ما عاملوه به “وَاتُونِي بِأَهْلِكُمُ أَجْمَعِينَ” [يوسف: 93]، لأن يوسف بشهادة القرآن ارتقى إلى درجة الإحسان التي بلغها باجتباء الله له، وبتقواه الذي صيره صفيًّا، “قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدَ ـ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” [يوسف: 91، 92].

تلك هي أخلاق القرآن التي نشأ عليها المخلصون من عباده، وهي مقابَلة الإساءة بالإحسان، هذه الدرجة التي هي بين العباد سرُّ الأمن والأمان، ولكن الشيطان ينزغ، ويصوِّر للإنسان الإحسان للمسيىء بأنَّه ضرب من الخنوع، والرضى بالدونية، إذ لو تصرف الناس فيما بينهم بهذه الدرجة العالية من الأخلاق الإسلامية الكريمة، لانقلب ـ بشهادة الله ـ كل عدو إلى حميم، “ادْفَعْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنـَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”، [فصلت: 34]، ولكنَّها مرتبة جليلة عظيمة لا يرقى إليها إلا “الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” [فصلت: 35].

المقاربة:

لن يتحقق هذا الهدف الحضاري الرائع بين المسلمين جميعا ـ وهو أن يكون الفرد من أجل المجموع، والمجموع من أجل الفرد ـ، إلا إذا عُمِّمت هذه الرؤية الحضارية التي نشهدها صباح مساء في وادي ميزاب، وهي ما يعرف في النظام الإجتماعي هناك “العشائر” وليست العشيرة إلا تجمع عائلي يبدأ بالأسرة لتنداح دوائره في تماسك إسلامي منتظم رائع ليشمل القرية أو البلدية كلها، وفائدة هذا النظام الذي هو مكسب حضاري إسلامي راق يتمثل في التضامن، والتكافل، والتعاون بين طبقات المجتمع كله بكل شرائحه وفئاته، بحيث ينشأ الفرد منذ صغره وهو يفكر في الجماعة لا في نفسه، ومن ثم يتوسع هذا التفكير بل هذه الرؤية على كل أفراد المجموع، فتعود الفائدة الاجتماعية على الكل، بحيث تكون الجماعة تفكِّر من أجل الفرد.

وتجد روح هذا التفكير في كل المؤسسات المدنية، الدينية في حلقة العزابة، الاجتماعية في العشائر، التعليمية في المدارس الحرة، الإقتصادية في الجمعيات ذات الطابع المالي والتجاري والفلاحي، وهي تتجلى حتى في الناحية العمرانية بهندستها الرائعة، وبدلا من أن يكون هذا المكسب الحضاري مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية في وادي ميزاب بل الجزائر قاطبة، تجد بعض من نزغ الشيطان بينهم وركب ظهورهم يعتبرون هذا النظام طائفية مذهبية، قبلية وعصبية مقيتة، وكان الأولى بهؤلاء المتعصبين أن يحاولوا تطبيق هذا النظام في أحيائهم وقبائلهم هم ليعم الرخاء في كل أنحاء الوادي، كما كان الأجدى أن يبحث المثقفون من هذا الجيل الجامعي الجديد عن مواطن الخير في هذا النظام الاجتماعي الإباضي الميزابي، بدل الكيد والدس، والتشويه، والكذب بأطروحات يقيؤونها في كتاباتهم الصحفية واتصالاتهم الاجتماعية عن طريق النت صباح مساء.

فإنَّ الكثير من تلك الكتابات ولاسيما في هذه السنوات الأخيرة، أساءت كثيرا إلى العلاقات الاجتماعية بين المتساكنين، الذين كانوا قبل الاستقلال واستفحال نظام الحزب العتيد، يتعايشون في ظل التسامح الكامل والتعاون الأمثل، ولاسيما فيما يحتاج إليه البدوي من الحضري، والرحالة من المستقر، والعامل من البطال، فهل تعود أيام الرخاء والألفة والمحبة بين المتساكنين كما كانت من قبل؟

نسأل الله ذلك وأكثر، وما ذلك على الله بعزيز، وذلك هو الدور المنتظر من المصلحين والأعيان والمثقفين من الطرفين.

والحمد لله رب العالمين.

د. محمد صالح ناصر

الأبيار: الأحد 02/03/2014

 الآيات العقدية والسلوكية من سورة يوسف عليه السلام. 

 الآيةرقمها
“اِنَّ الشَّـيْطَانَ لِلاِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ”05
“فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىا مَا تَصِفُونَ”18
“وَكَذَالِكَ مَكَّـنَّا لِيُوسُفَ فِي الاَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَـاوِيلِ الاَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىآ أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”21
“وَكَذَالِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ”22
“مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبـِّيَ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ”23
“قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ”28
“وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ”33
“فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبـُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”34
“مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ”38
“اِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبـُدُوا إِلآَّ إِيـَّاهُ ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيـِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”40
“وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِيَ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةُم بِالسُّوءِ اِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ”53
“نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ”56
“وَلأَجْرُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”57
“فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”64
“فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىا مَا نَقُولُ وَكِيلٌ”66
“وَمَآ أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ اِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ”67
“كَذَالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلآَّ أَنْ يَّشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ”76
“قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمُ أَنفُسُكُمُ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ”83
“قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِيَ إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”86
“وَلاَ تَايْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ”87
“وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ”88
“إِنَّهُ مَنْ يَّتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ”90

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى