تأملات وأفكارفتنة غردايةواحة المعرفة

نظرة في الفتن…

اليوم وفي خضمّ الأحداث العالمية والثورات العربية والصراعات الطائفية والعرقية وبعد أن هبّت عواصف الموجتين الأولى والثانية: الزراعية والصناعية، ها هي الموجة الثالثة “المعلوماتية”: الإعلامية، الرّقمية تعصف بنا في زمن أقلّ ما نقول عنه أنّنا لم نحضّر له، هذه الموجة التي سرّعت وحفّزت في تغيير طبيعة المجتمعات وسلوك أفراده.. فسهّلت انتقال الأفكار المسمومة والمخططات المذمومة – التّي تصاغ بعناية فائقة في مراكزَ تفكيرٍ ورصدٍ غربية – إلى العالم الإسلامي، وممّا زادَ الطّين بلّة وجودَ تركيبة نفسية واجتماعية مضعضعة ومهزوزة، وقابلياتٍ ذهنيةٍ مستلَبة تشير إلى ضعف في المتلقي لتقبل كلّ شيء.

إن المتأمّل في الظروف الراهنة للعالم العربي والإسلامي ليُدرِك خطورة ما يُراد بنا، وأبعاد ما يُحاك لنا، ونوعية القميص الذي يُفصّل لنا لنرتديه، خاصة بعد ظهور الجيل الرابع من الحروب ومشروع الشرق الأوسط الكبير، فما ظاهرة الثورات العربية وانتشار بؤر الصّراع والتوتر وعدم الاستقرار إلاّ دليل على هذا النّوع الجديد من الحروب والاستعمار ، والذي يركّز أساسا على:
– تسخير الإرادات والقدرات الداخلية في تنفيذ المخططات الخارجية عن طريق العزف على وتر حسّاس من أوتار الذاكرة التاريخية وفق أسس مذهبية وعرقية وفكرية وسياسية؛ بنشر الافتراءات والأكاذيب وزرع الفتن والانشقاقات كي تتعمق الخلافات وتصل إلى حدّ التصفية والاقتتال، بإيهام كلّ من الطرفين أنّه على حق وغيره على الباطل.

ومع تسارع الأحداث تحدّدت أكثر ملامح هذا الجيل الجديد، وانكشفت معه المخططات المندسّة، وظهرت الأطراف الفاعلة داخل المجتمع الإسلامي، فمن لعبة المصطلحات السيارة termes véhiculants التّي صنعتها السلطة الطاغية عبر التاريخ، والتّي توظِّفها حسب الظروف والمعطيات بما يخدم مصالحها، حيث لا تجد تعريفا واضحا ثابتا لهذه المصطلحات بل تُلوّنٌ كتلوّنِ الحرباء لِلَونها حسب اتجاه أشعة الشمس، حتّى أضحت الساحة الإسلامية كثيفة بضبابية المصطلحات، وأصبحت الصّورة الحقيقية للنّموذج الإسلامي غير واضحة تماما في الواقع.

والمؤسف أنّ أغلب هذه المصطلحات باسم الدين وما أخطر المتاجرة بلبوس الدين، حتّى ظهرت فرق متناحرة وجماعات متقاتلة..

وعندما نسأل عن الأسباب التّي أدّت إلى حدوث كلّ هاته الفتن باسم الإسلام الذي يدلّ مصطلحه على السلم والسلام، وهو عكس ما يفعله هؤلاء، نجد أنّ اللفظية والحرفية والذريّة والاختزالية والإقصائية واجتثاث النصوص من سياقها هي الأسباب الأوّلى في كلّ هذا، فمن المستحيل أن يحدث ذبح وقتل واستباحة دماء وسفك أعراض وحرق ممتلكات، وأن يحدث كلّ ما هو معادي للسّلم والسّلام باسم الإسلام والحرية والعدالة… وفي النهاية يصرخ البعض من هؤلاء دفاعا عن “الإسلام” في حكم اللحية والإسبال والموسيقى وغمس الذباب وبول البعير.. وحديث عن فرق ناجية وأخرى ضالة ؟!

لكن مهما كان الواقع، يبقى صاحب الفطرة السّوية على يقين أنّ الأفعال والمعاملات هي التي تعكس الحقائق، وأنّ الفعل هو الصوت الأقوى من الصراخ والخطاب والكلام، وقد أصاب الحقّ من قال: “لا تتكلم عن الدين لكن اجعلني أرى الدّين في سلوكك..”.

الفعل السليم لا يعكس إلاّ قلباً سليماً، وهو الرّهان ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون… و يحدث عادة أن تظهر حقيقة صاحب هذا القلب السليم في الحالة الحركية état dynamique وليس في حالة السّكون état statique، بل في لحظات الفتن والأزمات، كما يحدث أن نفرّق بين الغثّ والسمين في حالة الطرد المركزي. ما هو جدير بنا فعله في هاته اللحظة التاريخية، أن نبحث عن حد فاصل بين الأسباب المباشرة والغير مباشرة، وأن نفرق بين الأسباب الرئيسية والثانوية المسببة في الفتن، وأن نسأل عن طبيعة الفتن، وهل هي شيء طبيعي في دورة كلّ حضارة وفي مرحلة رقي أي مجتمع؟ أم هو شيء دخيل على العالم الإسلامي؟ وما هي أوجه الشبه والاختلاف مقارنة بالفتن عبر التاريخ الإسلامي أم أنّ تجاوز الفتن يستدعي فقدان الذاكرة التاريخية؟ وهل نفس السنن والقوانين تتكرر بتفاصيل مختلفة أم هو غير ذلك..؟ هل يمكن تفسيرها ببعض الآيات والتي يمكن توظيفها مجتـثّة عن سياقها والتّي تدعو في ظاهرها إلى الاستسلام السلبي والتّأقلم معها، مثل قوله تعالى: “وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون” ..؟

مهما يكن السبب، كلّ واحد على حدة أو الأسباب في تركيبتها الكليّة … إلاّ أنّ ما هو يقيني ولا يجب أن نختلف فيه أنّ المنطلق هو العامل الداخلي قبل العامل الخارجي، فقبل أن نتحدث عن “الاستعمار”، جميل أن نتحدث عن “قابليتنا للاستعمار”، وقبل أن نلوم الخارج، حريّ بنا أن نبحث عن أسباب تصدّع البيت من الداخل، فوجود الجراثيم في الطبيعة عاديّ جداّ – لها دور ايجابي – لكنّ المشكلة هي غياب المناعة في جسم الإنسان، فمتى نتعلّم بأنّ الأوساخ هي التي تجذب الذباب والحشرات؟ أَمَا آن الأوان أن نَسْنُدَ فعلَ قتلِ الذباب بفعلِ تجفيف المستنقعات وتنظيف المحيط؟؟

إنّ تفسير ما يحدث لنا كلّه بنظرية المؤامرة الخارجية فقط، لَيدعو إلى السذاجة والتسفيه، فرغم حقيقة هذه المؤامرة إلاّ أنّها لا تملك القدرة التفسيرية الكافية، وهي متجاوزة لمنظومة ذاتية اتباع الأسباب، ومكرّسة للوهن والاستكانة، وداعية للرضا والخضوع بالواقع، وإلى صرف الطاقة بالتّعامل مع ما هو خارجي عوض الداخلي، ما يتنجُ عنه بذل جهد كبير بدون نتائج مضمونة…

فمن الأدوار الرئيسية التي يجب أن نمارسها اليوم – إضافة إلى أشياء أخرى – هي:

  • التحليل الموضوعي العميق للفتن والأحداث والاهتمام بالأسباب القريبة والبعيدة، والتفريق بين الأسباب الرئيسية والثانوية…
  • القدرة على تفكيك المصطلحات الغامضة التي تؤدي إلى سوء الفهم وإعادة تركيبها في معانٍ رحيبة، والتركيز أكثر على الساحة الفكرية لتوليد المفاهيم والنماذج والصّور بما يتوافق مع المعاني العميقة للإسلام.
  • تأسيس نموذج فكري حضاري سياسي يغيّر ميزان القوى بالفعالية والتخطيط لا بمنطق العاطفة وردة الفعل، غير منغلق على نفسه ولا مساوم لمبادئه في أطر قانونية ومعطيات راهنة لحضور فعّال في سياق محلي ووطني وعالمي…

إنّ هذه الأدوار متجاوزة للجهد الفردي، وداعية إلى متّحد علمي وعقل جماعي في إطار ما يسمى “بالجماعات العلمية” ومراكز التفكير.. يضمّ مجموعة من الباحثين من مختلف التخصّصات، نفوسهم مشبّعة بالإيمان والمعرفة، مع استشعار عظيم للبعد الأخلاقي… ليسوا أكثر ذكاء من الآخرين لكنّهم الأصفى نفسا والأطهر قلبا والأنقى ضميرا…

حمزة موسلمال

المصدر: فييكوس نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى