تأملات وأفكارواحة المعرفة

بذور الرشد، وروح العلم

بذور الرشد، وروح العلم (نحو نموذج حضاري بديل)

هل لا يزال السؤال عن روح العلم جديرًا بالعناية، في مختلف الدوائر المتخصِّصة؟ أم أنه في مستوى معيَّنٍ من العلماء حقيقٌ ومشروع، وفي مستوى – هو مجال حراكنا – صار مصادَرا وممنوعا، إلى حين؟  وهل يمكن – أساسا – القولُ بإنتاج المعرفة في غياب “المتَّحَد العلميِّ” (الجماعة العلمية)، أم أنَّ وجوده شرط لا غنى عنه، ومقدمة لا يتمُّ الخبر إلاَّ بها؟

مِن المؤكَّد معرفيًّا أنَّ عقول البشر لا تتباين ولا تختلف باعتبار عِرقها وجغرافيتها والعصر الذي وجدت فيه؛ وإنما “البيئة الخصبة” هي التي تُسهم في تفتيق هذا العقل أو ذاك، كما أنَّ “البيئة العقيمة-السبخة” تساعد على “ضمور” هذه الفكرة أو تلك؛ غير أنَّ الخصائص الأولية يجب أن تتوفر وتتوافر في العقل ابتداءً، والخريطة الجينية ينبغي أن تحمل الأجوبة على سؤال المستقبل انطلاقًا؛ وإلاَّ فغياب الخصائص المبدئية لا يضمن نتيجة مهما كانت “التربة صالحة”.

أعالج هذه الأيام، وبنشوة “كنشوة العابد”، اللوائحَ الأولى لـ”بذور الرشد”، من خلال برنامج إعلاميٍّ أعِدَّ خصيصا للإدراج من قبل مهندسين متمرِّسين؛ أصل الليل بالنهار، وأربط الفكرة بالفكرة، ثم أعاند السؤال كلَّما استعصى السؤال، منقِّبا باحثا مستكشفا… أوَلا أسمي ذلك “روح العلم”؟ ثم ألا أدرجه ضمن لحظات ميلاد المعنى؟ أهو مجرد إجراء علميٍّ روتيني لا غير؟ أم أنه حالة “مخاض عسير” دونه بذل المهج؟

أقف أمام الآية القرآنية متذلِّلا خاشعا، أنقِّب عن كلِّ حرف، وأغوص في كلِّ كلمة، عن إشارة أو رمز إلى الفعل، وإلى العمل؛ متجاوزًا مجرَّد الدلالة القاموسيَّة، أو حتى المعنى التفسيريِّ التأويليِّ المعتاد، وإن  لم أكن ممن يستغني عنه (أي التراث التفسيري) بل يعتمده وينطلق منه بلا عقدة… أقف بجميعي، وبكلِّي، وبما أوتيت من معارف سابقة وتجارب جارية، مما يشكِّل “نموذجِي المعرفي”، أجعل منه “براديما” و”منظورا” للولوج إلى عالم الآية القرآنية الرحب… لأخرج ببذرة ثم برنامجٍ للعمل، حتى وإن بدا أوليًّا غيرَ مكتملِ المعالم؛ ذلك أنَّ “إعمال العقل الجمعيِّ” سيكون كفيلا بإكمال المهمَّة، ويكون جديرا بجعل النتيجة ممكنة، والشجرة مثمرة، والثمرة يانعة نافعة…

كلَّما  قرأت – في كتاب الهداية – لامَ النهي “لا”، سجَّلت بذرةً تمنع ما بعدها من أمرٍ، وعوض البحث عن إعرابها وأوجهها فقط، أواصل وأبحث – بعد ذلك – عن تبِعاتها، وعن صيغها، وعن فعاليتها في سياقنا الحضاري: “ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام (السلم) لست مؤمنا” ثم أنظر في واقع المسلمين: “مِن خلاف واختلاف”، و”إقصاء، فتبديع وتفسيق وتكفير…”… وأصل هذا بذاك؛ لأجد أني مَعنيٌّ، ومَن معي كذلك معنيٌّ، بهذه الآية؛ فأحفر، بل نحفر سويًّا، في نفوسنا علَّنا نجد ما نعالجه، وما نطيبه، وما نصحِّحه، وما نزكيه… على إثر هذا الحرف “لا” وتحت ظلِّ نوره…

وإذا ما تلوت – في الكتاب المبين – الفعلَ المضارع “يحبُّ”، سألت في لهف عن مصدره، وعن متعلَّقه، وعن مستلزماته، وعن إمكانية استنشاق عبقه العطر زكيًّا، أقرأ قوله تعالى: “بلى من أوفى بعهده واتقى فإنَّ الله يحبُّ المتقين”… إذن مصدر الحبِّ أبديٍّ أزلي، مطلق العلم والقدرة والإرادة؛ ومتعلَّق الفعل هو أنا، هو أنت، هو الإنسان… لا بذاته، وليس استحقاقا؛ ولكن بصفة (أو صفات) يتحلى بها، ويلازمها، ولا يحيد عنها… وهنا، في هذه الآية يخصُّ تعالى صفة “الوفاء بالعهد”، مؤسَّسة على “التقوى” الدائمة… لكن، لا يقتصر الأمرُ على العهود الفردية، اليومية، البسيطة؛ وإنما يشمل المواثيق بين الفئات، والجهات، والاتجاهات، والأمم… وكذلك، نحن جميعا معنيون.. بالعمل، وبالوفاء، وبالتقوى… وإن لم نفعل، فلا نستحقُّ هذا الحبَّ الأبدي الرباني…

ثم إذا سمعت – في الفرقان – كلمة “الإنسان” نكرةً أو معرفة، تيقَّنت أنني معنيٌّ بما يترتَّب عنها؛ مهما كان هذا المتعلَّق، ومهما بدا مخصوصا: “خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون”.. وأنا خُلقت من عجل، وفيَ صفات كثيرة من الاستعجال، ولكَم اقترفت من خطأ بسبب ذلك؛ بل ونحن في سياقنا الفكريِّ، أو الجغرافيِّ، أو المؤسسيِّ… لطالما استعجلنا الأمور، ولم نتريث… فما العمل لكي نصوِّب هذا الخلل، ونراجع هذا الزلل؛ وإن كنَّا على يقين أننا لن نقضي عليه كلِّية، ولكن، لِنحاول مع ذلك… ففي المحاولة الأجر والمثوبة.

وقِس على الحرف، وعلى الفعل، وعلى الاسم… وعلى الجملة، والفكرة، والمشروع… مما ورد في كلام الله تعالى المحكم؛ تعلَم أنَّ “مسافة النصِّ إلى الفهم” قد عُولجت ولو نسبيا؛ أمَّا “المسافة بين الفهم والفعل”، أي “ما بعد اكتمال الدلالة”، فبقيت رهينةَ الذوق، والاقتراح، والرؤية الآنية، والخطاب الوعظي… ولم ترق إلى تأسيس بحثيٍّ معرفيٍّ جَمعي لـ “خطط، ومشاريع، وبرامج، ومنطلقات، ومناهج، ومؤسَّسات، ومراكز، وإنجازات…” رغم أنَّ فعل “يحبُّ” لوحده،  مثلاً، سوف يستغرق سنين من العمل، ويستتبع بناء هيئات عالمية، ويقتحم جميع مناحي الحياة، وجميع المنتَجات، وكلَّ الأحداث… في سؤال: هل هي مصبوغة بصبغة “حبِّ الله”؟

لهذا، وفي هذا، ومن أجل هذا… اعتُبرت “بذور الرشد” اكتشافا جديدا، وجاءت على أنها تندرج ضمن “نموذج بديل جديد”، مؤسَّس على سؤال الأزمة عن “حركية الفكر والفعل”؛ وبهذا تكون المعالجات جميعُها مصبوغة بصبغة ذات السؤال، تبدأ منه وتنتهي إليه…

ثم إنَّ روح العلم لا تقبع في جدل حول “مساحة المعلوم” بالنظر إلى “الراصد” و”المجهول”، ولا تلتصق بصلصال السؤال عن “اليقينية” فلسفيا ونظريا؛ وإنما تتحوَّل إلى حقلٍ جديد يُخرجها من الماهية (دون أن يتنكر للماهية) إلى الكيفية  (من غير أن يجعل الكيفية هي كل شيء، وهي كل العلم).

نعم، “بذور الرشد”، فيما نحسب، لو عمِلنا في “متَّحد علمي” (جماعة علمية)، سيرقى ويسمو إلى هذا الأفق اللامتناهي، وسيبزغ جراءه – بإذن الله – فجرٌ جديدٌ في المعرفة والثقافة والحضارة؛ أمَّا إذا بقي حبيس “الفرد”، كيفما كان هذا الفرد، فإنه قد يصبح “منبِّها” و”مؤشرا” نظريا تنظيريا… ولا يمكنه أن يصنَّف “نموذجا بديلا”، ولا سبيل  – حينها – إلى الادعاء، ولا إلى الاستعجال…

محمد باباعمي

عمرانية، استانبول

المصدر: فييكوس نت

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: كُتبت هذه الأسطر، متزامنة مع افتتاح  الموقع الجديد، لفييكوس، في ذكراه الثامنة؛ وهي مناسِبة كمقال افتتاحي، غير مباشر… إذ ليس الوقتُ وقتَ المماحكات اللفظية، ولا المحسنات الخطابية؛ وإنما الزمن زمن العمل بناء على العلم، وزمن الفعل الحضاري مؤسَّسا على الفكر الإيماني التوحيدي القرآني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى